تركيا قبلت توقيع التفاهم الثلاثي، لكنها تدرك أنها تغامر بإضرام النار في سفن العودة وخسارة ما تملكه من أوراق متبقية لها في سوريا
لم نقرأ حتى الساعة في الإعلام التركي المؤيد والمعارض، مادة واحدة تتحدث عن أسباب توقيع أنقرة لاتفاق أستانة الثلاثي مع روسيا وايران، أو تحليلا يتيما يتوقف عند الايجابيات والسلبيات.
فهذا إما أن نقاشات الملف السوري تتراجع ولم تعد تهم المواطن والإعلام التركي، أو أن البعض لا يريد إبراز تحولات السياسة الخارجية التركية في قضايا إقليمية حساسة مثل القضية السورية والعلاقة التركية مع روسيا وايران وتحويل اهتمام المواطن نحو المشهد السياسي والأمني الداخلي الساخن ليتجنب ارتدادات قراراته الإقليمية وتأثيرها السلبي على مزاج المواطن داخل البلاد.
في العلن يبدو أن أسباب التوقيع التركي يتقدمها التالي:
- تعزيز العلاقات التركية الروسية بعد التوتر السياسي والأمني الذي حصل العام المنصرم نتيجة إسقاط المقاتلة الروسية واستغلال تركيا لهذا التقارب الثنائي مع روسيا في ملفات اقتصادية وإنمائية استراتيجية، إلى جانب التنسيق الإقليمي مع موسكو كرد تركي على تراجع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
- اكتشاف أنقرة لنقاط الضعف الروسية في الملف السوري وحاجة موسكو إليها لقطع الطريق على العودة الأمريكية.
- قناعة تركية في أن تتحول هذه المناطق إلى أماكن تحقق لها ما تريده من حظر لطيران النظام السوري وتدخل إيراني يقترب أكثر فأكثر من حدودها مع سوريا في اللاذقية وإدلب . التفاهم التركي الروسي الايراني على إعلان إدلب منطقة آمنة خارج الاشتباكات مطلب تركي أصرّت عليه أنقرة لأنه سيعطيها الفرصة للتوجه نحو خاصرتها الأخرى في مناطق الجنوب الشرقي وحدودها مع القامشلي والحسكة حيث يتقدم مشروع الكيان الكردي هناك .
- حقيقة أن أنقرة وقعت الاتفاق لأنه يجنبها خطر انفجار أزمة لجوء جديدة من إدلب بعدما شعرت أن النظام وإيران يتمسكان بالدخول إلى هذه المناطق للسيطرة عليها وتشريد سكانها وتغيير بنيتها العرقية والدينية .
- محاولة التفرغ للتصدي لمشروع قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا الهادف لبناء وترسيخ الحكم الذاتي الكردي عبر تأسيس نظام جديد في الشمال يقوم على حكومة سورية اتحادية.
- محاولة تركية نحو بناء تحالف جديد مع روسيا في التنسيق ضد تنظيم داعش في سوريا كرد تركي على رغبة واشنطن خوض معركة الرقة بالتنسيق مع الوحدات الكردية على حسابها في سوريا .
لكن ما لا تأخذه تركيا بعين الاعتبار هو التالي :
- الحديث المتزايد سورياً وإقليمياً حول أن المصالحة والتطبيع التركي – الروسي من المحتمل أن يكونا فتحا الأبواب أمام تفاهمات واتفاقات ثنائية وإقليمية كثيرة، بعضُها معلَن وبعضها الآخر ما زال طي الكتمان .
- إن ما أسمته هي بمناطق اللااشتباك قد تتحول إلى خط قبرصي أخضر آخر أو خطوط التماس ومعابر وتقسيم جغرافي يحقق للبعض ما يريده في تفتيت البنية السورية .
- فتحها الطريق أمام عودة إيرانية إلى قلب المشهد السوري بصناعة روسية تركية هذه المرة بعد فشل تفاهمهما الأخير دون طهران على وقف إطلاق النار في سوريا والإعلان عن أنّ الخطوة المقبلة ستكون الاستعدادَ لبدء المفاوضات السياسية بين فرقاء النزاع في العاصمة الكازاخية، في إطار اتفاقية نصّبتهما ضامنَين لتنفيذ ما يتَّفَق عليه ، فها هما يعيدان ايران إلى الطاولة الثلاثية رغم كل انتقادات ورفض المعارضة السورية والتنديدات الاقليمية والدولية بسياسة إيران في سوريا.
- دخول أنقرة في خطورة قراءة الدعم الاقليمي وتحديداً العربي والاسلامي المقدم لها . شركاء أنقرة الاقليميين أعطوها الفرصة والمساحة التي كانت تَبحث عنها في الملف السوري وضرورة أن لا تفرّط . بمِثل هذا الدعم والتأييد المشروط أيضاً . هل يجوز للقيادة السياسية التركية أن تفرّط بأوراق لا تَملكها أساساً، ولا يعود القرار بشأنها لها وحدها . النجاح هناك سيُحسَب لها حتماً . لكن الفشل سيحسب عليها وستدفع الأمور بمجرى آخر يعقّد المشهد السوري أكثر فأكثر .
- خطورة تجاهل ما تقوله قوى المعارضة السورية التي وصفت الاتفاق بأنه غامض وغير مشروع، وإنه أُبرم بمنأى عن الشعب السوري وقد يتحول إلى مقدمة لتقسيم البلاد ويقدم الميليشيات التي مارست الإرهاب على الشعب السوري على أنها قوات حفظ للسلام في سوريا .
في الخلاصة يبدو أن :
- تركيا أرادت قلب المعادلات في إدلب عبر التفاهم مع موسكو على ممر إنساني بين إعزاز وتل رفعت يوفر لها تأمين الحماية للمدنيين وإبقائهم في أراضيهم .
- والمؤكد بالنسبة لتركيا أن ما ستناقشه مع واشنطن بعد الآن هو أبعد من تحديد دورها في معركة الرقة، بل محاولة اكتشاف ما الذي ستقدمه الإدارة الأمريكية الجديدة لقوات سوريا الديمقراطية كجائزة ترضية على دورها المحوري في إخراج داعش من هناك .
- تركيا التي لم تقنع واشنطن بالتحرك الثنائي العسكري في الرقة لم يكن أمامها خيارات كثيرة لذلك رأيناها تقبل المغامرة والعرض الروسي في سوريا بهدف حماية مصالحها وسياساتها الأمنية هناك.
- تفاهم أستانة الأخير هو جزء من عملية الرد على التحرك الأمريكي في شمال شرق سوريا .
لكن خطأ حكومة "العدالة والتنمية" قد يكون هو غارة يتيمة ضد مواقع العمال الكردستاني وحليفه حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا والعراق ، عمل عسكري تركي بدل أن يقطع الطريق على التنسيق الأمريكي مع التنظيمين قد يمنح واشنطن فرصة فرض خطوط فصل وعزل لتوفير الحماية لهما للعب هذه الورقة ضدها .
تركيا قبلت توقيع التفاهم الثلاثي، لكنها تدرك أنها تغامر بإضرام النار في سفن العودة وخسارة ما تملكه من أوراق متبقية لها في سوريا . رهانها على المعارضة إلى جانبها قد يتضرر ويتراجع أمام تقاربها مع روسيا وقبولها للجلوس والتفاهم مع إيران، والأخطر والأهم من كل ذلك، احتمال أن يفاجئها التقارب الأمريكي الروسي في اللحظة الأخيرة .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة