أسلوب الحياة، هل يمكن تعليم أحدهم "الشخص الراشد" كيف يكون له أسلوب حياة "يفهمه ويشعر به ويسير عليه..."؟
الفلسفة تجربة يخوضها كل ذي عقل، منهم من يغوص في الأعماق ليكون فيلسوفاً؛ فيكون له بناء فلسفي قائم على نظرية متناسقة ومتكاملة، ومنهم من يكتفي بالضروريات دون أن يُكلِّف نفسه عناء البحث عن قضايا تستفز وتستثير رغبته في الكشف عن تساؤلات تستحوذ على اهتمامه، فالفلسفة كنشاط ذهني إبداعي نابع عن إرادة لا تُعلَّم، بل ويكاد يكون تعليمها مستحيلاً.
إن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الفلاسفة الحقيقيين الذين يمتلكون مؤهلات حقيقية ولديهم رصيد رصين وثقيل من الأعمال الفلسفية، لكي ينبلج النور وتظهر الحقيقة في عالم افتراضي قد امتلأ بالمغالطات، وساد فيه الظلام وأصبح فيه الصغار رموزاً ولهم أتباع
لتقريب الصورة إلى ذهن القارئ؛ يمكن القول إن الفلسفة كالحياة "كواقع مُعاش" بمواقفها وأحداثها وما فيها من روتين ونظام وتقلُّبات وتغيُّرات وبكل ما تحويه من اختلاف وتعدُّد وما تُكسِبه للفرد من خبرات، نعم؛ قد تستفيد من خبرة أحدهم، ولكن يستحيل أن تتعلَّم تلك الخبرة وكأنك قد عايشتها تماماً، هكذا هي الفلسفة. مثال آخر:
أسلوب الحياة، هل يمكن تعليم أحدهم "الشخص الراشد" كيف يكون له أسلوب حياة "يفهمه ويشعر به ويسير عليه..."؟
لا يمكن ذلك؛ لأن أسلوب الحياة عبارة عن تراكمات معرفية وخبرات الفرد وتنشئته الأسرية وبيئته والنواحي الوراثية البيولوجية والنفسية جميعها عوامل تُشكِّل على مدى سنوات مفهوم "أسلوب الحياة" عند الإنسان.
هناك مقولة شائعة لسارتر قد تعطي مزيداً من الوضوح:
"أنا لا أحاول الحفاظ على حياتي من خلال فلسفتي فهذا شيء حقير، ولا أحاول إخضاع حياتي لفلسفتي فهذا شيء متحذلق، لكن في الحقيقة الحياة والفلسفة شيء واحد."
تساؤلاتنا وآلامنا وصرخاتنا ورفضنا لكثير من أقدار الحياة لا نجدها في العلم بقدر ما نجدها في الفلسفة، وكأن الإنسان يرى في الفلسفة الخلاص، حتى الموت الذي يراه البعض خلاصاً للإنسان لا يمكن فهمه والاقتراب من حقيقته بعيداً عن الفلسفة، فحتَّى نقبل بحقيقة الموت لابد من فلسفة، وقد يحدث نوع من اللبس في الفرق بين الدين والفلسفة حول مصير الإنسان، إلا أنه يمكن إيجاز الفرق في أن الدين يقدم إجابات على شكل مُسلَّمات يجب أن تؤمن بها لتطمئن نفسياً، أو ترفضها وحينئذ يحدث الارتباك والقلق (المحمود) فيتجه الإنسان إلى الفلسفة لعله يجد فيها الدواء، فالدين لا يسعى لإقناعك بقدر ما يسعى لإخضاعك، بخلاف الفلسفة التي ربما تقودك نحو الإيمان الحقيقي على نحو أكثر فعالية من الدين.
بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي أُبتلينا بأقوام قرأوا عدة كتب فلسفية وأتوا بما حفظوه لينقلوه ويغردوا به معتقدين أنهم بذلك أصبحوا فلاسفة تنويريين! بل وصل الحال ببعضهم إلى إخفاء هويته ليعطي للآخرين إيحاء بأنه ذلك الفيلسوف الغامض الذي سبر أغوار الفلسفة فأصبح زاهداً في كل شيء وليس بحاجة إلى إظهار نفسه لأن أعماله "تغريداته المنقولة" تكفي للحديث عنه! ليست هنا خطورة الأمر، بل الإشكالية أصبحت تكمن في دخول أمثال هؤلاء إلى قضايا عميقة ليس من السهل الحديث عنها في بضع تغريدات، ثم تأتي الجماهير من متابعي هذا "الفيلسوف التويتري" ليأخذوا وينقلوا عنه وينقادوا كقطيع مُنظَّم خلف هذا الفيلسوف الوهمي.
بعد كل هذا أقول؛ إن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الفلاسفة الحقيقيين الذين يمتلكون مؤهلات حقيقية ولديهم رصيد رصين وثقيل من الأعمال الفلسفية، لكي ينبلج النور وتظهر الحقيقة في عالم افتراضي قد امتلأ بالمغالطات وساد فيه الظلام وأصبح فيه الصغار رموزاً ولهم أتباع. رغم أن بعض الفلاسفة في هُجرانهم لأمثال تلك المواقع لا يُلامون، نظراً لشعورهم إلى حدٍ ما بأن الجماهير لا تحترم ولا تُقدِّر أعمالهم ولا تعرف قيمتهم، بالإضافة إلى بروز وتصدُّر أصحاب "الخواء الفلسفي والعلمي والروحي"، وأيضاً حسد الأنداد، كلها عوامل تشدُّ بوطأتها على كاهل الفيلسوف الحقيقي فينأى بنفسه بكل عزة وكرامة وشموخ، لينشغل بعقله وقلمه بعيداً عن الضجيج والسفاسف والاحتكاك بمن يبحثون عن الضوضاء من خلاله أو الوصول والصعود على كتفيه ثم يتنكَّرون بعد ذلك لمن فَقِهوا على يديه ومن خلاله كلمة "فلسفة"!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة