تنخرط الإدارة الأمريكية تدريجيا في قضايا الإقليم، وهو ما يتضح من مجمل الحركة الأمريكية خلال الفترة الأخيرة.
ودون انتظار حقيقي لتكشف الموقف الراهن لأغلب القضايا، وما انتهت إليه إدارة الرئيس السابق ترامب.
والواضح أن الأسماء المكررة التي تعج بها إدارة الرئيس بايدن وخبراتها، وفكرها المسبق سيكون عونا لها ووسيلة للتحرك المباشر، وعدم التأخر في الدراسة والبحث، فالرئيس جو بايدن نفسه سيكون مهندس السياسة الخارجية الأمريكية، ومعه فريق معاونين ومساعدين معروف لنا جيدا في الشرق الأوسط، ولعل سرعة قرار الرئيس بايدن بتعيين مبعوث إيراني خاص روبرت مالي، أحد مهندسي الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، تؤكد هذا وتفرض واقعا سياسيا في التعامل مع الحالة الإيرانية عن قرب، مع التأكيد على أن الحركة الإيرانية السريعة هدفها دراسة فريق السياسة الخارجية لمسارات التعامل مع إيران، وكذلك الشرق الأوسط والعلاقات العربية الإسرائيلية، واتفاقيات السلام، فالإدارة ملمة تماما بما يجري، ولا يوجد أي إشكاليات حقيقية في التأني، أو الدراسة، وهو ما يراهن عليه الرئيس جو بايدن شخصيا.
ستتحرك الإدارة الأمريكية للتعامل مع الحالة الإيرانية في اتجاهين محددين؛ الأول اتجاه دول الاتحاد الأوروبي، ومن خلال التعرف على مستجدات الموقف الأوروبي تجاه الانخراط في مفاوضات مباشرة مع إيران للتفاهم بشأن الملف النووي، وبرنامج الصواريخ والسلوك الإيراني في الإقليم، والمرتبط بالتدخل الإيراني المباشر في بعض الدول العربية، إضافة إلى وضع ضوابط التعامل المستقبلي مقابل رفع العقوبات، وإعادة تعويم النظام الإيراني في الإقليم ومراقبة سلوكياته، وهو ما سيتم وفق نهج أمريكي لافت وواضح ومرتب له جيدا، ومن ثم فإن الموقف الأوروبي يجب -وفقا للتصور الأمريكي- عدم الخروج عنه، خاصة أن الدول الأوروبية سبق أن تعاملت مع إيران بمعايير عدة، واختبرت الكثير من أدوات التعامل فعليا، ونجحت في مواجهة السلوك الإيراني لبعض الوقت، إلى حين بدأ الجانب الإيراني في المراوغة التي يتقنها جيدا، وبدأ رحلة الخروج من حالة الالتزام بنص الاتفاق، والاتجاه إلى زيادة معدلات التخصيب، بل أعاد تنظيم أولوياته من جديد، خاصة في المنشأة الشهيرة فوردو، إضافة إلى التحرك في ناتنز وبوشهر، وذلك في إطار من التحرر من قيود الاتفاق.
وبالتالي فإن الموقف الأمريكي الأوروبي يجب أن يكون واضحا ومتفقا عليه مبكرا قبل التفاوض، لمنع أي مساحة من التحرك المفتوح للجانب الإيراني الذي يستعد للدخول في مفاوضات مع الإدارة الأمريكية، وهو يعلم أن فريق المفاوضين والمبعوث الأمريكي المعين لديهم خبرات متراكمة ومواقف مباشرة، وأنه لا تساهل وفقا للتصور الأمريكي، الذي لن يقدم اتفاقا مفتوحا بل ملزما ومقبولا أوروبيا، وذلك لحرص الإدارة الامريكية على عدم الصدام مجددا بالاتحاد الأوروبي، بل سيكون الاتفاق النووي إحدى أهم نقاط الاتفاق الأشمل مع الأوروبيين، والذي سيتضمن قضايا الأمن الأوروبي، ومستقبل حلف الناتو، والحالة الليبية، وشرق المتوسط، إضافة لمؤسسات الشراكة الأوروبية الأمريكية، أي أن الموقف الأوروبي من التعامل مع إيران، والقبول بالموقف الأمريكي؛ سيكونان مدخلا لمقاربات أخرى لاحقة.
المسار الثاني: اتجاه الإدارة الأمريكية والمبعوث الأمريكي إلى الدخول في مفاوضات حاسمة، وليست مفتوحة زمنيا مع إيران للقبول بما سيعرض أمريكيا، حيث لا خيارات كثيرة موضوعة، وإنما ملفات محددة معلومة للجانب الإيراني، إما بالقبول وإما بالرفض حيث لا تحفظات، والواقع أن مراجعة السلوك الإيراني خلال الأسابيع الأخيرة تجد استجداء إيرانيا مطروحا للجانب الأمريكي للدخول في مفاوضات مباشرة، ودونما إلحاق أي طرف آخر، وهو ما يؤكد أن إيران لا تريد توسيع نطاق التفاوض، والاكتفاء بالطرف الأمريكي باعتباره المعني والمهم وفقا لتصور إيراني مسبق، ومن خلال تقييمات إيرانية مباشرة، والسؤال هل ستقبل الإدارة الأمريكية المنهج الإيراني في التفاوض، وتدخل مباشرة في حلبة التفاوض دون مراعاة الجانبين الأوروبي أو العربي، والاكتفاء بالإخطار أو الإعلام فقط، وهو ما قد يحقق الهدف الإيراني بصورة حقيقية، وبالتالي سيستمر الموقف الإيراني متشددا وساعيا لفرض بعض توجهاته، أم أن الإدارة الأمريكية ستدير حوارا حقيقيا مع الحلفاء في الإقليم للتأكيد على طبيعة العلاقات الأمريكية الدولية خاصة مع الشركاء، وهو ما سيعطي أهمية حقيقية لما ستمضي عليه الممارسات الأمريكية في الشرق الأوسط، وسينطبق أيضا على طبيعة دورها الراهن تجاه رعاية ودعم اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية، وحث الأطراف العربية التي لم توقع اتفاقيات سلام مع إسرائيل على تحقيق ذلك؟
إن المعلوم مسبقا أن الإدارة الأمريكية ستضيف ملحقا إضافيا للاتفاق الأصلي يتضمن كل المستجدات التي يقرها الجانبان مع مراعاة المتطلبات الأمنية والسياسية للأطراف المختلفة المعنية، والأهم الجانب الإسرائيلي الذي دخل مباشرة في مفاوضات أمنية واستراتيجية مع الإدارة، لتحديد الخطوط الحمراء التي لا يجب على الإدارة الأمريكية تجاوزها بالفعل في هذا التوقيت، أو حتى لاحقا، وهو ما ستقرّه الإدارة الأمريكية وفق برنامج الشراكة الاستراتيجية، وإلا فإن الحكومة الإسرائيلية ستبلغ الإدارة الأمريكية بإمكانية العمل بمفردها، أو حتى بالتشاور مع الإدارة للتعامل مع أي تهديدات قد تطلقها إيران، وعدم الإنصات لأي ضغوط أمريكية في هذا الإطار، وهو ما قد تتخوف من تبعاته الإدارة الأمريكية التي ألحقت إسرائيل بالقيادة المركزية للشرق الأوسط، بدلا من تبعيتها لدول الاتحاد الأوروبي، وهو ما ينقل رسالة في اتجاهات مختلفة قد تتفهمها إسرائيل بالخطأ، واتضح في زيارة قائد المنطقة الوسطى الجنرال كينيث ماكينزي، لإسرائيل مؤخرا، وفي تحركات رئيس مجلس الأمن القومي مائير بن شبات ووزير الاستخبارات إيلي كوهين، وبرز مؤخرا في تصريحات غير مسبوقة لرئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي، والذي رسم في مؤتمر مركز الأمن القومي INSS استراتيجية إسرائيل على الملأ في التعامل مع الحالة الإيرانية، وبصرف النظر عن توبيخ وزير الدفاع بيني جانتس له على إطلاق هذه التصريحات، إلا أنها قد تأتي في إطار لعبة توزيع الأدوار في الداخل الإسرائيلي، والتي تسعى لنقل رسالة للإدارة الأمريكية مبكرا وبدون صدامات مباشرة، وهو ما قد تتفهمه الإدارة الأمريكية جيدا وستتعامل معه بجدية كبيرة.
الخلاصة أن الإدارة الأمريكية لن تستطيع العمل بمفردها مع إيران في ظل تعقد المشهد التفاوضي بصورة كبيرة وعدم اقتصاره على الولايات المتحدة وإيران، بل إن هناك دول الاتحاد الأوروبي والترويكا الثلاثية وإسرائيل والدول العربية، وما لم تراعِ الإدارة الأمريكية متطلبات كل الأطراف فسيكون الاتفاق أمريكيا إيرانيا، وعلى هامشه دول الاتحاد التي أبقت الاتفاق حيا رغم كل الخروقات الإيرانية المعتادة، كما أن إغفال موقف الدول العربية تجاه ما يجري رغم إعلان بعض مسؤولي الإدارة الأمريكية قبل دخول البيت الأبيض أنه سيكون هناك حوار إقليمي حول إيران، والاستجابة لبعض المطالب العربية المثارة في هذا الإطار لن تكون أمرا سهلا، ولن تستطيع الإدارة الأمريكية تمرير اتفاق مع إيران، والذي قد يتأخر إلى منتصف يونيو المقبل، بعد أن تجري الانتخابات الإيرانية، وتتضح الأمور، أي أن العمل على التوصل لاتفاق عاجل لن يتم، وكل ما سيجري الدخول في دائرة التفاوض أولا، والبدء في إزالة حالة الاحتقان في العلاقات الإيرانية الأمريكية، مع تهيئة الأطراف المعنية بجدوى وجدية الحوار مع إيران، وباعتباره أمرا مطلوبا لاستقرار الإقليم بأكمله كما ترى إدارة بايدن، وستحرص على التأكيد على منطقها السياسي والاستراتيجي في التعامل مع الحالة الإيرانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة