عبر الإطار الاقتصادي يمكن التأكيد أن أمريكا حاليا تتفوق على الصين، ولكن المقومات الحضارية للصين أكثر عمقاً من أمريكا.
فالصين تشكلت وحدتها قبل الميلاد بأكثر من قرنين من الزمان مما يعني أن السلوك الصيني يتميز برابط تاريخي يمتد طويلا في عمق البشرية، وهذا على عكس أمريكا التي تشكلت وفق مفهوم حداثي لا يتجاوز الثلاثة قرون، هذا المفهوم كسر الكثير من القواعد والتقاليد السياسية والاقتصادية، ولذلك فإن المنافسة الصينية الأمريكية لن تكون مجرد تفوق اقتصادي فقط.
الخط الحضاري للصين يسهل عليها تماسكها الحضاري، فتجربتها التاريخية وقدرتها على صهر مجموعاتها العرقية والإثنية عبر الزمن يسهل عليها الدخول إلى المنافسة الحضارية بمتغيرات محددة ترتبط كلها بقدرتها الاقتصادية، وهذا عكس أمريكا التي أظهرت خلال العقود الماضية تشققات مقلقة في التركيبة العرقية، فقد ظهرت النزعات القومية في الداخل الأمريكي وأصبح صعود اليمين ملحوظاً ومقلقاً ومؤثراً في الأمة الأمريكية.
ولعل السؤال الاستثنائي في التنافس الأمريكي الصيني يمكن صياغته على النحو التالي: هل التفوق الاقتصادي العميق في أمريكا قادر على حماية مكتسباتها وابتلاع مشكلاتها القومية والعرقية، أم أن التفوق الحضاري الصيني عبر تاريخ طويل من التماسك الاجتماعي والوحدة الجغرافية يمكنه حمل الصين إلى المقدمة عبر معطيات اقتصادية تنافسية..؟، بمعنى دقيق ما بين أمريكا والصين من تنافس سوف يحدد الفائز به معادلة تاريخة تضع الاقتصاد والحداثة في مقابل الحضارة والعمق التاريخي.
الاقتصاد مسرح مفتوح يمكن للصين الدخول إليه والتنافس مع أمريكا، لكن المسرح التاريخي مختلف، فلا أحد يستطيع الدخول إليه أو منافسة الأخرين لأنه يعتمد على الزمن الماضي والعمق الحضاري، وهذه ميزة صينية تتفوق بها على أمريكا، الصين من أكثر الدول اهتماما واعتزازاً بتاريخها، وهي محقة في ذلك، ولكن القضية تعتمد بالدرجة الأولى على الكيفية التي سوف يتم من خلالها توظيف التاريخ بهدف التفوق، وهذا يعني أن الاقتصاد متغير متحرك في الحضارات العالمية ولكن التاريخ متغير ثابت يصعب تصنيعه اقتصاديا.
ولكي تكون الصورة أكثر وضوحا فإن المشروع الصيني الطموح "الحزام والطريق" إنما يستند إلى بعد تاريخي اقتصادي كان العالم في الماضي يعتمد عليه كممر للتجارة بين شرق العالم وغربه، وهذا ما جعل فكرة المشروع الصيني جاذبة تاريخيا للدول الراغبة بتجربة مسار "الحزام والطريق" كمسار تاريخي لحمل الاقتصاد الصيني ونشره من جديد عبر العالم.
أمريكا والصين كلاهما يخشى الآخر، ولن تتوقف الحرب الباردة بينهما لمجرد تغير في الإدارة الأمريكية ومجيء رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض، وخاصة أن خطوط التماس بينهما بدأت تلامس قضايا حساسة سياسية واقتصادية، ما يعني أن المنافسة لن تتوقف، ولكنها سوف تتحول إلى تنافس حقيقي قد تتغير من أجله الكثير من معايير النظام العالمي بشكله السياسي تحديدا.
الصين هي من تنافس أمريكا وليس العكس وهذا يعني أن الصين لن تتوقف عن الرغبة الطموحة في أن تحتل موقع الصدارة عالميا، وعلى الطرف الآخر سوف تحارب أمريكا من أجل البقاء فوق القمة العالمية لأكبر قدر من السنوات، ومع أنه ليس من الواضح المسار الذي سوف تنتهي إليه المنافسة، إلا أنه يمكن التأكيد على أن النظام السياسي الأمريكي القائم على دعم الديمقراطيات عالميا سوف يتعرض لانحسار شديد، فالتجربة الصينية خرقت الكثير من القواعد السياسية السائدة في أمريكا كونها ترى أن ديمقراطيتها إنما تشكل الخيار السياسي الوحيد للعالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة