عشر سنوات تكاد تنقضي من عمر الأزمة السورية التي لم تعرف الهدوء والاستقرار إلّا على شكل هدوءٍ حذرٍ بين الفينة والأخرى.
لتعود بعدها نُذُر التصعيد والمواجهات التي تزيد المشهد تعقيداً، سنواتٌ اتّسمت بميلاد فصائل كثيرةٍ بتوجهاتٍ مختلفةٍ، ومنها الفصائل الكردية التي تبلورت في كيانٍ مسلّحٍ عامَ 2012 تحت اسم "قوات حماية الشعب الكردية"، وعرّفتْ نفسها آنذاك على أنها تهدف إلى حماية المناطق التي يتواجد فيها المكوّن الكردي من الأخطار المحدقة بالبلاد جرّاء الصراع المسلّح، ثمّ تحوّلت إبّانَ سيطرة داعش على أجزاء كبيرةٍ من سوريا إلى "قوات سوريا الديمقراطية"، عام 2017 كشرطٍ لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من أجل إشراكها في الحربِ على الإرهابِ واعتبارها حليفاً استراتيجيّاً، فتحوّلت بذلكَ أهدافها إلى السعي من أجل سوريا علمانية ديمقراطية فيدرالية.
ومنذ ذلك الحين لم تشهد هذه القوات أيّة مواجهةٍ حقيقيّةٍ مع الحكومة السورية على الرغم من أنّها تسيطر على سلّة الغذاء والنفط السورية؛ بسيطرتها على المحافظات النفطية والزراعية كالحسكة والقامشلي والرقة وأجزاء واسعة من دير الزور، فاقتصرت مواجهتها مع الاحتلال التركي الذي قضم الكثير من أحلامها ومناطق نفوذها في عمليتي "درع الفرات" و "نبع السلام".
في الحقيقة لم تخلُ الأعوام الماضية من بعض التوترات بين الدولة وقوات سوريا الديمقراطية، ولا سيما باستيلاء الأخيرة على المؤسسات الخدمية والتعليمية، وإنشاء هيكليةٍ تنظيمية من أجهزةٍ أمنية وعسكرية وقضائية وخدمية في الشمال، وبالتالي حُصر الوجود الحكومي السوري في مربعين أمنيين في مدينتي القامشلي والحسكة.
إلا أنّ الحال اليوم يعدّ الأخطر على الإطلاق في تاريخ العلاقة بين الجانبين، وذلك بحصار قوات سوريا الديمقراطية للمربعين الأمنيين للقوات الحكومية حصاراً خانقاً تجاوز الثلاثة أسابيع، بدعوى المعاملة بالمثل في حصار القوات الحكومية للمناطق المنعزلة عن قوات "قسد" في مدينة حلب التي يخضع فيها حيَّان من أحيائها لسيطرتها دون تواصل جغرافيٍّ بين هذه المنطقة والشمال الذي تشكل فيه قوات سوريا الديمقراطية القوة الضاربة بدعمٍ أمريكي.
فعقب سريان قانون العقوبات "قيصر" على الحكومة السورية ومنع الولايات المتحدة لدخول المشتقات النفطية والبضائع من مناطق حليفتها "قسد" في الشمال إلى مناطق القوات الحكومية، رفضت الحكومة السماح لها بإدخال المشتقات النفطية للحيّين الحلَبيّين ما لم تزودها باحتياجاتها من النفط، فتطورت الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم من حصارٍ وتوتّرٍ وتصعيدٍ، لا سيما وأنّ عنصراً من القوات الحكومية لقي حتفه أمس في الحسكة خلال مظاهرة نظمها مؤيدو الحكومة في المربع الأمني لرفض الحصار والدعوة إلى كسره.
على الرغم من أنّ الاتهامات متبادلةٌ بين الطرفين بدعوى الحكومة بأنّ العنصر قضى برصاص قوى الأمن الداخلي الكردي "الأساييش" ودعوى "قسد" بأنّ العنصر لقي مصرعه برصاص قوات "الدفاع الوطني" المناصِر للحكومة من أجلِ تسويغِ أيّة مواجهةٍ مستقبليةٍ أمام الرأي العام، إلا أنّ ذلك لا ينفي خطورة الموقف وقابليته للتطوّر على شكلِ مواجهاتٍ واسعةٍ إذا لم يتم احتواء الأمر بالحوار والمفاوضات.
في الحقيقة وبالنظر إلى تصرف طرفَي النزاع فإنّ الأمر مرشّحٌ للمزيد من التوتر، لا سيّما بعد استنفار قوات "قسد" في مدينتي الحسكة والقامشلي تزامناً مع دعوات محافظ الحسكة لممثلي العشائر العربية بالتقدم بطلبات التسليح من الحليف الروسي، الأمر الذي يُنذر بإشعال نار الحرب التي يصعب إخمادها في ساحةٍ ظلّت طيلة سنوات الحرب بعيدةً عنها فيما عدى بعض الاعتداءات المتفرقة والسيطرات الخاطفة لميليشياتٍ وجماعاتٍ إرهابية كتنظيم داعش والنصرة في الأعوام الأولى من الصراع، ولكنها لم تدم إلا لشهورٍ انقضت خاطفةً كما بدأتْ.
وفي نهاية المطاف لا بدّ للطرفين ومن خلفهم جميع الأطراف الوطنية والدولية السعي من أجل احتواء التوّتر الحاصل، وفكّ الحصار عن شعبٍ عانى ومازال من ويلات الحرب والحصار والفقر والجوع والعطش، ولا بدّ من حقن الدماء وتجنيب المنطقة حرباً شرسةً لن يقف صدعها عند حدود مواجهاتٍ آنيّةٍ؛ لما للمنطقةِ من خصوصيّةٍ وحساسيّةٍ فائقةٍ قد تتطوّر إلى صراعٍ عرقيٍّ دامٍ يمتدّ لعقودٍ من الزمن، لذلك فالشمال السوري اليوم في ذمة الوطنيين من الطرفين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة