إحدى أهم نقاط التركيز في تصريحات سمو الشيخ عبدالله بن زايد، بحسب اعتقادي، تتمثل في استراتيجية ملء الفراغ العربي
لا يخفى على أي مراقب أو مهتم بالتطورات الجارية في منطقتنا العربية أن أحد أهم أسباب الأزمات التي اندلعت في العديد من الدول العربية، هو غياب الدولة وانهيارها وشلّ أيديها عن ممارسة سيادتها على أراضيها لأسباب تتعلق بمخطط نشر الفوضى غير الخلاقة الذي بلغ ذروته في نهاية عام 2011، في إطار ما يعرف إعلامياً بـ"الربيع العربي".
في اليمن على سبيل المثال، امتلكت إيران علاقة تخطيط وتمويل ودعم فكري وعسكري ومادي ولوجستي، مع جماعة "الحوثي" منذ تسعينيات القرن الماضي، وساعدت طهران هذه الجماعة الانقلابية على التمرد على حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح وخوض حروب ضده.
ولكن جاءت اضطرابات 2011 لتوفر فرصة غير مسبوقة لإظهار هذه العلاقة من السر إلى العلانية، وبالتالي فقد اندفعت إيران بقوة لتفتح خطوط نقل الأسلحة والإمدادات للحوثيين، حتى أنها تباهت علناً بالسيطرة على صنعاء ضمن عواصم عربية أربع لم يشعر الإيرانيون بأي حرج سياسي أو حساسيات استراتيجية في الإعراب عن سيطرتهم عليها!
ملء الفراغ الاستراتيجي وتدشين مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك بقيادة مصر والسعودية والإمارات، يمثلان رسالة قوية للعابثين والمغامرين الإقليميين بانتهاء حقبة مغامراتهم وتدخلاتهم غير المشروعة في الشأن العربي.
في تقرير مصور بعنوان "كيف اتخذت إيران قرار الدخول إلى سوريا؟" بثته شبكة "بي بي سي" مؤخراً، نقلت الشبكة عن مذكرات اللواء السابق في الجيش الإيراني حسين همداني، التي تناول فيها خلفيات تدخل إيران عسكرياً في سوريا، والتي قال فيها إن النظام السوري رفض في البداية مشاركة الحرس الثوري الإيراني في العمليات العسكرية الدائرة في سوريا، ولكن المرشد الإيراني حسم الأمر بقوله "سوريا بلد مريض، لكنه لا يعرف أنه مريض، وهذا المرض يجب شرحه لرجال الدولة في سوريا، وإذا رفض هذا المريض الذهاب إلى الطبيب، فيجب أن تأخذوه، وإذا رفض أخذ الدواء الذي وصفه الطبيب، يجب أن تجرعوه الدواء بأنفسكم، وتراقبوه لتتأكدوا أنه يأخذ الدواء حتى يشفى"!
ألهذا الحد بلغت العنجهية الإيرانية في السيطرة والتحكم بمقدرات بلد عربي؟، علينا أن نحلل هذه الكلمات جيداً لنفهم مدى استهتار النظام الإيراني بالقانون والمواثيق الدولية، وتجاهله لأي ردة فعل محتملة على الصعيدين الإقليمي والدولي، لا سيما أنه كان يدرك تماماً آنذاك (المذكرات تتناول بدايات التدخل الإيراني عام 2012) أن هناك حالة انهيار للنظام الإقليمي العربي، وأن الكل مشغول بما يحدث إما داخل الدولة كما كان الحال في دول عربية شقيقة، وإما بمتابعة ما يجري في دول عربية مؤثرة، ومراقبة تطوراته ومحاولة الحد من تأثيراته الجيواستراتيجية، كما كان حال بعض الدول الخليجية والعربية الأخرى.
ليس جديداً إذن أن نؤكد أن الفراغ السياسي وتآكل هيبة الدولة في حالات وسقوطها وغيابها تماماً في حالات أخرى كان العامل الأكثر تأثيراً في التمدد الإيراني في الدول العربية.
من هنا يمكن فهم أهمية تصريحات سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، خلال زيارته الأخيرة لمصر، ولقائه فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي ووزير الخارجية سامح شكري، حيث يلاحظ أن مفاهيم ومصطلحات مثل "التعاون المشترك" و"التنسيق" قد رافقت استعراض سموه لموقف الإمارات ومصر حيال مجمل القضايا والأزمات الإقليمية، التي كانت حاضرة بقوة في اللقاء الصحفي الذي جمع الوزيرين، فبالإضافة إلى تطورات موقف الدول الأربع الداعية لمكافحة الإرهاب حيال قطر، تطرقت التصريحات إلى الأوضاع في سوريا وليبيا والأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق والصومال، وسبل التصدي للتدخلات الإيرانية في شؤون المنطقة، ودعم جهود المجتمع الدولي لمكافحة التطرف والإرهاب، وأشار سموه إلى "مسؤولية عربية مشتركة" تجاه الشعب السوري، منوهاً بأن "مصر اليوم تعافت من محنة وأزمة لم تكن صعبة عليها وحسب، وإنما على كل مَن يحب مصر ومن بينهم دولة الإمارات"، في إشارة واضحة وعميقة إلى عودة الاستقرار والفاعلية إلى منظومة الأمن الجماعي العربي، باعتبارها "كلا لا يتجزأ" كما هو ثابت في الرؤية الاستراتيجية الإماراتية ـ المصرية ـ السعودية المشتركة.
إحدى أهم نقاط التركيز في تصريحات سمو الشيخ عبدالله بن زايد، بحسب اعتقادي، تتمثل في استراتيجية ملء الفراغ العربي، التي تعمل الدبلوماسية الإماراتية على تدعيمها من أجل ترميم منظومة الأمن القومي العربي، وإنعاشها لتستعيد عافيتها وتتصدى لمصادر التهديد الاستراتيجي الآني واللاحق، والتي حددها سموه بأنها تأتي من إيران وإسرائيل وتركيا، وهنا تتجلى أهمية تأكيد سموه ضرورة "استعادة كل ثقل عربي ممكن حتى لا نرى فراغاً بعد الآن في ليبيا وسوريا واليمن"، وحديثه عن أن "جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية لديهما مهمة تاريخية ومسؤولية"، وتشديده على أن دولة الإمارات ستظل داعمة للقاهرة والرياض، من أجل الوفاء بمتطلبات هذه المهمة والاضطلاع بهذه المسؤولية.
والمؤكد أن السيطرة على الفراغ الاستراتيجي الذي خيّم طيلة السنوات الفائتة على الفضاء العربي سيكون أحد أهم مداخل التصدي للتدخلات الإيرانية والتركية في الشأن العربي، كما سيكون داعماً قوياً لجهود تسوية الأزمات التي تسببت في تشريد ونزوح ملايين العرب من بلادهم، فضلاً عن أن التعاون الثلاثي الفاعل على الساحة العربية حالياً، ينطوي على أهمية قصوى لمواجهة ما هو محتمل من مخططات تستهدف تقسيم وتفكيك سوريا أو ليبيا.
ملء الفراغ الاستراتيجي وتدشين مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك بقيادة مصر والسعودية والإمارات، يمثلان رسالة قوية للعابثين والمغامرين الإقليميين بانتهاء حقبة مغامراتهم وتدخلاتهم غير المشروعة في الشأن العربي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة