دلالات الوعي الشعبي بالعيد الوطني
يمثل تاريخ 2 ديسمبر علامة فارقة في حياة وتاريخ الإمارات العربية المتحدة
يمثل تاريخ 2 ديسمبر علامة فارقة في حياة وتاريخ الإمارات العربية المتحدة؛ ففي عام 1971 كان هذا اليوم نقطة تحول امتدت من صحراء ليوا إلى سواحل الخليج العربي. وفي عام 2016 أي بعد 45 عاما، يمثل هذا اليوم علامة فارقة في واقع حال دولة الإمارات، وسط تحولات الساحات العربية، التي تبدو كأنها موغلة في استعصاءات تاريخية وجغرافية، وجودية الطابع والمآلات.
تأخذ الاحتفالات بالأيام الوطنية للأمم والدول، في الأغلب، سياقات الذاكرة الوطنية. تفتح الأجيال السالفة خزائنها الذهنية أمام الأبناء والأحفاد، الذين تتناهى إليهم أخبار الأيام المجيدة على صفحات الكتب وفي ثنايا الحكايات المتوارثة. بنوع من التبجيل لهذه الذاكرة الفردية والجمعية، يحتفل الإماراتيون كل عام بيومهم الوطني. وتأتي احتفالاتهم هذا العام، على أعتاب نصف قرن من الإنجازات جعلت الدولة التي أنشأها المؤسس الأول المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيّب الله ثراه)، مع ثلّة من إخوانه، استثنائية في الوقت الذي فتكت به الأمراض وأعراضها بمشروعات الدول الوطنية التي سبقتها في التأسيس أو جايلتها. وفي مثل هذا العمر، يبدو استدعاء الذاكرة أكثر إلحاحا، وأكثر احتياجا. هكذا يحتل حديث الذكريات المقام الأول في كل مجلس كلام، وفي كل وسيلة إعلام.
هذا المعين، الذي سجلته لحظة الولادة عام 1971، والذي حفظته على السنوات الصدور والعقول، تبدو أهميته في هذا العام موازية لأهمية اللحظة الراهنة في كل تجلياتها وأبعادها. فقد بلغ التطورات على الساحات حدا، لم تشهده الدول والأقطار طوال تاريخها المتداول والمكتوب. وهو في بعض، جوانبه، خرج من حال الحراك التي يمكن رصدها، وتوقع اتجاهاتها، والتأثير ـربماـ في سياقاتها، إلى حالة من السيولة الهادرة التي لا يمكن التنبؤ بمسار جريانها، ولا توقع أماكن مصباتها، وتنعدم القدرة لإقامة السدود في وجه اجتياحها.
في ظل هذا المشهد العربي المتغيّر، يبرز النموذج الإماراتي كعلامة فارقة. أو قل كعلامة تدل على الاتجاه الصحيح. أو كبرنامج خلاص، أو ربما خارطة طريق للخروج من الأزمات الوطنية المستوطنة. لقد نشأ النموذج الإماراتي قبل 45 عاما، كمنجز وحدوي عربي ووطني في آن. وتمكن خلال عقود قليلة، أن يقيم الدليل على ضرورة الوحدة الوطنية كأداة شرط لتحقيق غايات الأمة في التقدم والتنمية البشرية والإقتصادية والثقافية، وفي إرساء بنية مجتمع مدني تحكمه قاعدة الحقوق والواجبات.
حققت الإمارات منجزها ذلك بمعادلة ذهبية مثلثة الأضلاع: الوطن (كمعطى جغرافي وتاريخي)، والدولة (كمعطى قانوني ودستوري)، والشعب (كمادة إنسانية وطاقة روحية للوطن والدولة). وإذا دققنا النظر في الواقع العربي الراهن، فإن اختلال تلك المعادلة هو بالضبط ما جعل كل أزمة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية -وهي أزمات طبيعية في سير الأوطان- تتحول إلى أزمات وطنية كبرى، تهدد ركائز الوطن وتهزّ أركان الدولة.
نشاهد من الموقع الإماراتي تلك الأزمات الكيانية العاصفة، في أكثر من عاصمة عربية، السائرة في طريق وعر منتهاه تقسيم المقسّم، وتفتيت المفتت؛ فنجد أنفسنا بحكم الموقع، والمصلحة، والرغبة، متطلعين بشوق إلى هذا النموذج العربي، الذي قام قبل 45 عاما، على قاعدة الجمع، والبناء، والعدالة، والتقدم، والكرامة الإنسانية لكل مواطن ومقيم.
هو النموذج الذي افتقدته أوطان وكيانات ودول، وحققته الإمارات منذ 4 عقود ونيّف، بلا أيديولوجيات، ولا شعارات، ولا ادعاءات؛ لأنها ببساطة أدركت المستقبل انطلاقا من محطة الماضي عبر جسر الحاضر.
لكل ذلك، يحق للإماراتيين أن يحتفلوا بعيدهم الوطني على طريقتهم. يحق لهم أن يبتهجوا، وأن يرددوا الأهازيج، وأن يدبجوا القصائد الفصيحة والنبطية، وأن يزينوا بيوتهم بألوان العلم والرموز الوطنية، وقبل هذا وذاك، يحق لهم أن يتلوا آيات الرحمة على ذكرى قائد المسيرة، المؤسس والباني، وأن يظهروا آيات الاحترام لمن اهتدى وتابع وآمن بالمستقبل الواعد بقدر تمسكه بالماضي الزاهر.
يحتفل الإماراتيون، بذكرى قيام دولة الاتحاد كتقليد جروا عليه، منذ أن ظهر إلى الوجود السياسي والوطني هذا الكيان. والاحتفال بالأعياد الوطنية، ليس احتكارا إماراتيا. هو تقليد وطني في مشارق الأرض ومغاربها، وخصوصا عند الشعوب العربية، منذ أن بدأت الكيانات العربية المستقلة بالظهور في العقود الأولى من القرن العشرين.
لكن في خضم الاحتفالات الوطنية العربية، يبدو الاحتفال الإماراتي هذا العام -وخصوصا هذا العام- احتفالا عربيا خالصا.
بمعنى آخر: يأتي احتفال الإمارات بذكرى قيام كيانها السياسي الحديث وبمرور 4 عقود ونيّف عليه، وبرسوخ بنيانه، وتعزّز مؤسساته، وتأصّل دوره، على قواعد الاستقرار والتطور والنماء، في وقت أصبحت فيه الاحتفالات العربية خفرة، أو نادرة، أو متعذرة.
هنا يبدو المعنى العربي في الاحتفال الإماراتي؛ فالإمارات تحتفل بالوحدة والاتحاد، في زمن الفرقة والتباعد. تحتفل بالسلام والاطمئنان، في زمن الاضطرابات الداخلية والاهتزازت المجتمعية، والحروب المتعددة الجبهات. تحتفل بتقدم مسيرة التعليم، والطبابة، والرعاية، والتنمية، فيما تكافح مجتمعات أخرى من أجل اللقمة، ويتطاحن أفرادها في مطاردتهم للفرص الضائعة، فيطحنون وينطحنون. تقدم الإمارات نموذجا للكرامة الإنسانية، الفردية والجماعية، فيما تتلطخ نماذخ عديدة أخرى بالدماء وبوحول الامتهان..
كأن الاحتفال الإماراتي باليوم الوطني الـ45، يوم قيام دولة الاتحاد وانطلاق مسيرتها الراسخة والدؤوبة، يقدم درسا بليغا عن حال الدولة الوطنية العربية في التو واللحظة.
لقد نشأت الدولة الوطنية العربية، ونماذجها في المشرق والمغرب، في لحظة خروج الاستعمار من الباب، فيما ظلت شبابيكها مفتوحة له ولمن يشبهه. صحيح إن قوى المجتمع الحية توافقت في تلك اللحظة الحاسمة، على ملء الفراغ، لكن يتضح الآن وبعد عدة عقود، أنها ملأته بنظام وليد وليس بكيان وطيد. كل القوى، التي حكمت والتي عارضت، شاركت في ارتكاب الخطأ الزلزالي الذي يتحكم بنهضة ومسار الأمم. أي عندما يتقدم النظام على الكيان. أي عندما تصبح بلادة النظام، معيارا لاستمرار، أو عدم استمرار الكيان نفسه. وهنا تكمن المفارقة والخطورة فيما اصطلح على تسميته بالحراك العربي أو "الربيع العربي". فالكيانات الوطنية، في العديد من التجارب هي المهددة بالزوال، وليست الأنظمة هي المهددة بالسقوط.
تستوي في تحمّل المسؤولية، عن هذا الخطر المحدق، السلطات ومعارضاتها، فهذه أكلت من خبز تلك، وتلك خبزت من عجين هذه.
هذا الدرس ودلالاته، نقرؤه من خلال الاحتفال باليوم الوطني الإماراتي؛ فالمعنى الفولكلوري الظاهر في كل احتفال وطني في العالم، من فرنسا إلى روسيا، ومن الولايات المتحدة إلى الصين، لابد أن يفرج عن كوامن تأتي عادية في السياق، لكن في الحالة الإماراتية (والعربية) فإن الكامن يتقدم على الظاهر، والعادي يتراجع أمام الاستثنائي.
الآن، وهنا يقدم الاحتفال بالذكرى الـ45 لقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، تذكرة للجميع لكي يعبروا فعليا من النظام إلى الكيان، من الدويلة إلى الدولة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة