البعد العربي للتجربة الإماراتية
الاحتفال بالتجربة الإماراتية، هو احتفال يندغم فيه الحلم بالواقع. وتتجسد عبره آمال الأجيال ومشروعات تحقيقها
الاحتفال بالتجربة الإماراتية، هو احتفال يندغم فيه الحلم بالواقع. وتتجسد عبره آمال الأجيال ومشروعات تحقيقها. وهي هنا على وجه التحديد آمال الوحدة ومشروعات الاتحاد.
فقد بذل الوحدويون العرب الكثير من العرق والحبر، لكي يحققوا دعوتهم ويؤكدوا وجهة نظرهم. فمسألة الوحدة عندهم ليست فكرة أيديولوجية فحسب، وإنما هي منجز موضوعي. وهنا اختلفت مناهج الوحدويين ومذاهبهم.
دعا أبو خلدون ساطع الحصري إلى وحدة تقوم على نقاء العنصر وتبني على الأمجاد الغابرة، مستفيدا من كتابات من سبقوه مثل عبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان في أواخر القرن التاسع عشر، ومخلفا إرثا لمن يشبهه مثل زكي الأرسوزي ومحمد عزة دروزة في أوائل القرن العشرين.
لكن هذه الدعوة، العفوية في طبيعتها ومضمونها، ستصبح أكثر جذرية و"عقائدية" مع جمال عبد الناصر، فتأخذ عنوان الوحدة الاندماجية (مصر وسوريا عام 1958). وما كاد السقوط الكارثي لتلك الوحدة، يختم فصوله، حتى كانت إعلانات وحدوية متنقلة، تترى من هنا وهناك، انتهى بها الأمر إلى إعلان يأس مطلقيها من الوحدة خصوصا والعروبة عموما!
وفي أثناء ذلك الحراك الوحدوي، تعمقت أطروحات ميشال عفلق، التي لا يمكن اختصارها إلا بعنوان الوحدة الاستيعابية بين أشقاء كبار وأشقاء صغار، أو ما يمكن تسميته بالوطنيات الموسعة، بحسب ما أفرزته كل من التجربتين السورية والعراقية، والتي تطورت مع صدام حسين إلى ممارسة وحدوية على النمط البيسماركي تحقق نفسها بمدافع الميدان وراجمات الصواريخ.
حينما كان الوحدويون العرب، يغامرون في تجاربهم طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، ويصلون في كل مرة إلى حائط مسدود، ظهرت على سواحل الخليج العربي تباشير تجربة وحدوية، بدت متواضعة في إمكانياتها واحتمالاتها، بقدر ما هي جادة في إرادتها وخطواتها.
وحينما رفع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ومعه حكام الإمارات الآخرين، علم الدولة الاتحادية الوليدة في 2 ديسمبر 1971، فإنه كان بذلك يؤشر إلى الوحدويين قبل غيرهم، إلى أخطائهم وإساءاتهم إلى ما يؤمنون به.
ففي تجربة الإمارات العربية المتحدة، خلّص الشيخ زايد فكرة الوحدة -حتى في إطارها الوطني- من عبء الأيديولوجيا، وحرّرها من ترّهات التنظير، ونأى بها عن طابع المغامرة، وجنّبها منزلقات الدعاية والادعاء. وتلك انغلاقات أربع استحكمت بالحركة الوحدوية ودعاتها.
وبعد مرور 45 عاما على أنجح تجربة وحدوية في المنطقة العربية، خلال العصر الحديث، يمكن القول إن هذه التجربة الإماراتية، تشكل مرجعية زاخرة لكل المؤمنين بالوحدة، في مستوياتها الوطنية والإقليمية والقومية. مرجعية في الممارسة السياسية والسيادية. ومرجعية في بناء الإنسان المنتمي إلى ما هو أوسع من انتمائه في أشكاله البدائية والأولى. ومرجعية في الصيغة الدستورية ونصوصها المعاصرة. ومرجعية في عملية البناء والاستنهاض والتنمية والتطوير.
لقد تعرّضت الفكرة الوحدوية على أيدي المؤمنين بها إلى أسوأ مما أصابها بأيدي وأسلحة خصومها وأعدائها. وحينما أعاد الشيخ زايد تلك الفكرة، إلى منابعها الأولى النقية، وأضفى عليها من صفات العصر متطلباته وشروطه، فإنه كان يقوم مقام كل المفكرين والدعاة والقادة والمناضلين، مع فارق أساسي، هو أن جهوده لم تذهب هباء مثل جهودهم.
فمسألة الوحدة في الإمارات، بعد 45 عاما، لم تعد قضية قائد أو زعيم، نفخ فيها من روحه وإيمانه بها، وحولّها إلى حقيقة راسخة متجذرة، بل أصبحت قضية كل مواطن وحقيقته الوطنية.. وهنا مكمن النجاح الأول الذي استخلصه المغفور له الشيخ زايد، ولم ينتبه له من سبقه ومن لحقه من الوحدويين.
وارتكازا على هذه القاعدة في الرؤية والتطلع، يفرح الإماراتيون بيومهم الوطني بطريقة خاصة لم تعتدها كثير من الشعوب العربية؛ ففي الإمارات، يبدو الاحتفال باليوم الوطني كحدث شعبي بالدرجة الأولى. هو حدث خاص بكل مواطن على حدة. وحدث عام يشترك به الجميع. وحدث تواصلي ما بين القيادة والشعب، وما بين المواطنين والمقيمين. وفي تفسير هذه الظاهرة تطرأ الكثير من العوامل، لعل أهمها هو أن هذه الدولة الفتية، منذ أن انطلقت قبل 4 عقود ونيّف، جعلت من نفسها صلة الوصل ما بين الأفراد والأجيال. وتلك هي طبيعة العقد الاجتماعي الذي تنشأ على أساسه الدول. لكن دولة الإمارات أضافت بعدا خاصا لهذا التعريف، وهو أن كل مواطن سواء تجاوز عمره 45 سنة، أو ما زال دون هذه السن، يعتبر أن دولة الاتحاد هي إنجازه الخاص.
ولا شك أن الجميع يتفقون على أن القائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيب الله ثراه)، هو صاحب الفضل الأول في إرساء "شعبية الدولة" على هذا النحو، ثم جاء التطور المؤسساتي اللاحق لكي يجعل من القبول والالتفاف الشعبي عنصرا تكوينيا في بنية الوطن.
ولهذا السبب بالذات تجنّبت دولة الإمارات العربية المتحدة التحديات التي ألمت بنماذج الدولة الوطنية في الساحة العربية؛ فالناظر إلى الخريطة العربية، في راهنها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، سوف يتلمس عوامل السوء التي تعصف بالدولة الوطنية، في مشارق الأرض العربية ومغاربها. ويسهل على كثير من المحللين تحميل تلك المساوئ إلى المرحلة الإستعمارية السابقة، وهو تحليل صحيح في مبتدأ الأمر، ولكنه تحليل جزافي في منتهاه. فالاستعماريون زرعوا استعصاءات لا يمكن نكرانها، لكن الاستقلاليين لم يكونوا أقل منهم افتئاتا على المنجز الوطني بافتعال استعصاءات رديفة تكاد تصبح أزمات كيانية في كثير من الحالات.
النموذج الإماراتي يقف، بهذا المعنى، وحيدا في دلالاته؛ فهو الصياغة العربية العصرية الناجحة للدولة الموحّدة، الراعية، الناظمة، الفاعلة، المبادرة، القائدة، والمستقبلية. ولا تنحصر مفاعيل تلك الدلالات، في الإمارات السبع وبين مواطنيها والمقيمين فيها فحسب، بل تتعداها إلى العرب الحالمين بدولة تستوعب طاقاتهم وأحلامهم.
وبهذا المعنى، أيضا، فإن النموذج الإماراتي هو نموذج استقطابي، لأشواق الناس وتطلعاتهم في المنطقة العربية وربما أبعد. وقد تعوّد الناس، في المجتمعات القلقة أو المقلقلة، أن يتشوّقوا بأحلامهم عبر البحار أو إلى خارج الحدود. مرة بجاذب ديني، ومرة بدافع أيديولوجي. أحيانا بسعي إلى الحرية، ودائما بحثا عن حياة مستقرة كريمة. ونعرف، من خلال استقراءات تاريخية وأدبية، لشعوب كثيرة لاتينية وأوروبية وإفريقية وآسيوية وشرق أوسطية، أن هجرات فردية وجماعية كثيرة حدثت خلال القرنين الماضيين، كان محركها الأساسي ما يسمى "الحلم الأمريكي".
الآن، وهنا، يتجمّل النموذج الإماراتي بعناصر نجاح كثيرة: في بنية الدولة، ودورها، وفي معايير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والعملية.. الحضارية والمدنية.. التراثية والعصرية.. ما يجعله محط أنظار المتشوّقين إلى مثل هذه الحياة. والأمل أن يتحوّل هذا النموذج الناجح من كونه مرصدا استقطابيا إلى محرّك يبث عدوى النجاح في من يتطلعون إليه.
وبهذا المعنى، فإن ثنائية الآن، وهنا.. بدلالاتها المكزمانية، تبدو أسطع حضورا في احتفال دولة الإمارات العربية المتحدة بيومها الوطني الـ45.
الآن، وهنا.. تنجز التجربة الإماراتية أبلغ دروسها، لأبنائها، ولمن يعيش في أكنافها، ولإخوانها العرب والمسلمين في ديارهم.
الآن، وهنا.. ينتصب المثال الإماراتي أمام الناظرين إليه بعيون الدهشة، أو بدافع الرغبة، أو بحاسة الاكتشاف والاستفادة.
الآن.. في البعد الزماني، فإن احتفال أبناء الإمارات وقيادتها، باليوم الوطني، يوم الوحدة والاتحاد، ويوم قيام الدولة الحديثة، المتطورة، الراعية، يأتي متفردا في سياقاته الإقليمية، والعربية، وربما الدولية. فالإمارات تحتفل بوحدتها الوطنية، المؤسساتية والمجتمعية، في الزمن المتداعي، للوحدات الوطنية، وما قبلها وما بعدها، على امتداد الخريطة العربية، شرقا وغربا، جنوبا وشمالا..
قضية الوحدة، في النموذج الإماراتي، هي قضية معيارية، يحتج بها ويقاس عليها. صحيح أن الوحدة، في المثال الإماراتي، هي منطلق قبل أن تكون هدفا، لكنها خلال 45 عاما، كانت تثبت للوطنيين المستقلين داخل مجتمعاتهم، وللوحدويين المحلّقين مع طموحاتهم، إن مسألة الوحدة ليست شعارا تهتف به الحناجر، ولكنه امتحان يومي، تخوضه السلطة والشعب على السواء.
الآن.. في البعد الزماني، تؤتي الدولة الاتحادية أُكلها. لا يحتاج الأمر إلى أمثلة من واقع حياة الإمارات والإماراتيين لتأكيده. تلك مسألة سهلة. لكن مقاربة القضية من زاوية أخرى تحتاج إلى تمحيص. فالإمارات/الدولة، هي واحدة من تجارب الدولة الوطنية التي نشأت في المنطقة العربية في أعقاب المرحلة الإستعمارية وحصول الاستقلالات. وقد تعرضت الدولة الوطنية -في صيغتها العربية العامة- لاهتزازات قاسية، على الأقل في السنوات الأخيرة. نعاها كثيرون. واستمسك بها كثيرون. روّج البعض لبدائل لها، وذهب آخرون إلى القول إنها آخر صيغ العقد الاجتماعي العربي الممكنة، للمرحلة المقبلة على الأقل. في المقابل، تؤكد الإمارات امتلاكها لمعطيات نجاح الدولة الوطنية، في أسس تكوينها، وفي راهن تجربتها، وفي غايات مستقبلها. تقول الإمارات إن المشكلة لا تكمن في خيار الدولة الوطنية نفسها، وإنما في اختيارات القائمين عليها، حكاما ومحكومين.
أما هنا.. في البعد المكاني، فإن للجغرافيا دلالاتها ومعاييرها، بتوافر الشرط الإنساني لتفعيلها. فالجغرافيا المحضة، هي وقائع صماء. هي أطوال الحدود، وخصائص الجيولوجيا وثروات الطبيعة، وأحوال المناخ فحسب. بالشرط الإنساني، تصبح الجغرافيا كيانا نابضا. أو فلنقل كائن حيّ. وفي الجغرافيا الإماراتية كان الإنسان، وما زال، هي العنصر الحاسم منذ أن كان الإنسان ومنذ أن كانت الأرض. أو بمعنى آخر منذ أن غرس الأسلاف الوتد الأول في الخيمة الأولى، إلى أن رفع الأخلاف آخر سارية على أحدث برج.
هنا.. في البعد المكاني، لم تكن الإمارات أبدا محصلة لطفرة نفطية وهبها الله لهذه الربوع، واكتشفها أهلوها قبل بضعة عقود. هي قبل ذلك، بزمن سحيق، إرث أجيال من أهل الصحراء، بعاداتهم وأخلاقهم ومعاناتهم ودأبهم وإرادتهم بالعيش الكريم. وهي أرث جموع من البحارة الذين ركبوا الأهوال، وتحدوا الأخطار، وبحثوا في أعمق الأعماق عن دانات يعالجون بها شظف العيش.. هؤلاء البشر، في هذه الأرض، هم المدماك الأول الذي نهض عليه هذا الصرح.. هم كلمة السر المعروفة في ذلك المدى الممتد من الأفلاج إلى الأبراج.. هم الذين صاغوا لهذا المكان عبقريته، والتي ما كانت لتتظهر للعالم أجمع لولا همة رجل واحد.. رجل في أمة.. جمع وأسس وبنى.. كان اسمه زايد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة