لا تتخذوا من العنوان موقفاً، فالقصة ليست تبادل حضور ولا مقابلة أو اقتران، بين البابا والفنان، فلكلٍّ منهما مكانته ومجاله.
لا يُعرف الدافع الذي جعل مجموعة من رهبان المشرق، الكنيسة الشَّرقية (النسطورية)، العيش على جزيرة «صير بني ياس»، غرب مدينة أبوظبي في القرن السَّابع الميلادي، ويشيدون كنيسةً أو ديراً. الاحتمالات عديدة، منها ربَّما كانوا هاربين مِن اضطهاد مذهبي وديني، أو كانت المنطقة نفسها مسيحية، كذلك وجود الكنيسة على جزيرة صير بني ياس، في وسط مياه الخليج العربي، غير منفصل عن انتشار أتباع الكنيسة الشَّرقية على أرض معظم بلدان الخليج المذكور، ومنها امتدت الكنيسة الشَّرقية إلى الهند، والصين والشرق كافة، وكان مقرها المدائن ثم بغداد.
تجربة الإمارات الخاصة في مجال احتضان أهل الأديان، يميزها أنها كدولة حديثة الوجود، لا تملك قبل النفط غير الماء المالح والرمال والحلم، والأخير هو المصدر الأهم في النشأة، فما قيمة النفط إذا لم يوجهه حلم؟! الحلم الذي اتسع وكبر كي يقصده بابا الفاتيكان
ففي أبوظبي كنيسة حديثة تُدعى كنيسة مار توما، أو مار توماس، يُشير راعيها الأب جوهن فيليب أتارايل إلى وصول هذا المبشر من المدائن إلى كيرالا الهندية، وهناك كنيسة باسمه أيضاً، ومسيحيو كيرالا على المذهب الشَّرقي.
اكتشفت أساسات الكنيسة، وحُدد اتجاه مذبحها إلى الشَّرق، وفُتحت للمهتمين والزوار، بعد تردد مكتشفها الأثري البريطاني بيتر هايلير، مِن إعلان وجودها، ظنَّا منه أن الاكتشاف سيزعج حكومة الإمارات وشعبها المسلمين، لكن ظهر العكس، فقد اعتبروا وجودها قبل الإسلام عراقة تاريخية وأثرا نادرا، ومن يومها توسع التَّنقيب في موضع الكنيسة وما حولها.
كان ذلك العام 1992، ومنذ الستينيات ولوجود مسيحيين وافدين أخذت الكنائس تفتتح بأبو ظبي، وعلى حسب الطَّوائف، ونذكر منها: الرومانية الكاثوليكية، والكنيسة الإنجيلية، والكنيسة البروتستانتية، والكنيسة القبطية، والكنائس الأرثوذكسية، وكنيسة مار توما، والكنيسة الأرثوذكسية الأرمنية، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية.
وفق هذا الوجود التاريخي والحاضر للمسيحية، سيزور بابا الفاتيكان فرنسيس أبوظبي، لحضور مؤتمر حوار الأديان العالمي، وتمت دعوة الفنان الإماراتي للمشاركة في حفل خيري يُقام سنوياً، وحسب الأخبار أنه أول فنان عربي يُشارك في هذا الحفل وفي الفاتيكان.
لا تتخذوا من العنوان موقفاً «البابا إلى أبوظبي والجسمي إلى الفاتيكان». فالقصة ليست تبادل حضور ولا مقابلة أو اقتران، بين البابا والفنان، فلكلٍّ منهما مكانته ومجاله، إنما تعبير عن ثقافة جديدة لا تستبعد أهل الأديان، ولا تُقلل من دور الفنان.
فللفن مكانة عند المسيحية، ومن مركزها العالمي تصدح حناجر المغنين، والهدف عمل خيري، فلم يتأخر البابا فرنسيس عن تقبيل قدم أحد اللاجئين من مناطق الشرق الملتهبة، وبدعوة الفنان حسين الجسمي إلى الفاتيكان يعني أن هناك اعترافا بابويا ومسيحيا عامًّا بما تصنعه أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات، مِن تكريس التعايش الديني لمئتي جنسية، تعيش على أرضها، وللمسيحيين الحصة الأكبر، ولكلٍّ كنيسته ومعبده حسب ديانته، والحارس لهذا الاختلاط، بعد إشاعة ثقافة التسامح الديني، هو وجود قوانين صارمة لاحترام وجود الآخر، مهما كانت ديانته ومذهبه.
إن تجربة الإمارات الخاصة في مجال احتضان أهل الأديان، يميزها أنها كدولة حديثة الوجود، لا تملك قبل النفط غير الماء المالح والرمال والحلم، والأخير هو المصدر الأهم في النشأة، فما قيمة النَّفط إذا لم يوجهه حلم؟! الحلم الذي اتسع وكبر كي يقصده بابا الفاتيكان، وقد سبقه وجود الكنائس وعلى مختلف مذاهبها، هذا واقع الحال، نجح نموذج الإمارات في الحرية الدينية، فعلاً وقولاً.
إنها رسالة واضحة، لأهل التشدد، ممَن لا يرى حقَّاً لغير دينه أو مذهبه، ولمن يحرّم الغناء والموسيقى، فالرسالة التي يُقدمها حسين الجسمي، وفي حاضرة المسيحية، والتي ليس لها في تحريم الموسيقى والغناء، أنه قادم مِن بلد رُفعت على أرضه منائر المساجد وقُبب الكنائس، وللفن كرامة فيه أيضاً.
مؤكداً، سيقف البابا على آثار الكنيسة الفريدة بصير بني ياس، وسيتأمل ما حدث بين القرن السابع الميلادي، حيث النشأة المفترضة للكنسية، وما يحدث في القرن الواحد والعشرين، وهذا الدَّهر الطويل مِن فراغ المنطقة مِن المسيحية، تحت مختلف الأساليب. لم يعدّ ينظر، وهو رأس الكاثوليكية، إلى أثر الكنيسة الشَّرقية، على أنه مِن بقايا الهرطقة، مثلما كان الباباوات في العصور الوسطى ينظرون إلى غير الكاثوليكية، وبالمقابل لم يعد الحاكم المسلم ينظر إلى غير المسلمين مِن زاوية «الشُّروط العُمرية».
لا نتكلم عن البلدان ذات التَّاريخ العريق بوجود التَّعايش الدِّيني، إنما نتكلم عن بلاد حديثة النشأة، تعترف بغير دينها ومذهبها، يزورها رأس الكنيسة مباركاً التجاور بين المسجد والكنيسة. فليس مهمة الحاكم ولا رجل الدِّين إلغاء هذا التَّجاور، بالحديث عن تحريف الكتب المقدسة، أو إبطال الأديان، فهذا يعود إلى الله والمؤمنين بها، تبقى مهمتهما الحفاظ على السِّلم الاجتماعي، وهذا لن يحصل إذا ما أُجبر النَّاس على أديانهم.
ختاماً، مرة أخرى أرجو ألا يكون عنوان المقال صادماً، فالبابا يحمل رسالة الإخاء الدِّيني، والجسمي يحمل رسالة مفادها أن المسلمين ليسوا جميعاً متطرفين ضد الفن. فالخير، الذي سيشارك بجمعه تحت قبة الفاتيكان وأصوات النَّواقيس، هو الخير سوى جُمع في مسجد أو في كنيسة.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة