من الإمارات إلى الفاتيكان دعوة لكي يستشعر كل مؤمن بأن هناك حاجة حقيقية لأن تتكامل أدوار المؤمنين
لم تكن زيارة البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في فبراير/شباط الماضي مجرد حدث بروتوكولي، بل شراكة حوار وجوار، ومسيرة بناء ونماء من أجل خير الإنسانية، ما يعني أن مستقبل تلك العلاقة ماضٍ إلى درجة الشراكة، وفي الآفاق مشروع كبير عن التربية سيحين الحديث عنه عما قريب.
لا يزال فرنسيس الفقير وراء جدران الفاتيكان يؤمن بأن أنفع وأرفع السبل لمواجهة عثرات الحياة الحاضرة الاعتراف بأن الله تعالى هو أصل العائلة البشرية الواحدة، فهو ولكونه خالق كل شيء وخالق الجميع يريد أن يعيش الجميع كأخوة وأخوات، وأن نقيم البيت المشترك الذي منحنا هو إياه أي كوكب الأرض.
من الإمارات إلى الفاتيكان دعوة لكي يستشعر كل مؤمن بأن هناك حاجة حقيقية لأن تتكامل أدوار المؤمنين، كل في موقعه وبمقدار تأثيره العولمي، من أجل استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، ذاك الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث، ومعاني التعاون والإحسان.
وعلى الجانب الآخر تؤمن دولة الإمارات العربية المتحدة بأن النهضة الحقيقية لعالمنا العربي إنما تقوم ركائزها على التسامح والتصالح، على المودات التي لا تبنى على الكراهيات والعصبيات التي تفرق، وتجرح عوضا عن أن تشرح، وتفرق بدلا من أن توفق.
من هنا تتأسس الأخوة الحقيقية التي تبلورت في الوثيقة الشهيرة الأخيرة التي صنعت على أرض الإمارات، ومن هنا أيضا تتجذر بشريتنا المشتركة، ودعوتنا الإنسانية القائمة على امتلاك الكرامة التي تخبرنا بأن الناس سواسية، وأنه لا يمكن لأحد أن يكون سيدا للآخرين أو عبدا لهم.
التواصل الخلاق بين الفاتيكان والإمارات أضحى مجالا رحبا وأفقا واسعا لسردية التسامح والحوار بين البشر، وهذا ما جرت به المقادير نهار الأحد الماضي، حين احتفلت إيطاليا بيوم الحوار الإسلامي المسيحي الذي بلغ نسخته الثامنة عشرة، وقد كان في القلب منه، ومن أهم مرتكزاته وثيقة الأخوة الإنسانية التي أكسبت الاحتفال هذا العام دفعا وزخما متميزين.
في حديثه إلى موقع فاتيكان نيوز يخبرنا الأب جوليانو سافينا، مدير المكتب الوطني للمسكونية والحوار بين الأديان، بأن التوقيع على وثيقة الأخوة الإنسانية في الرابع من شباط/فبراير الماضي شكل قيمة إضافية بالنسبة لهذا اليوم، وكما أظهرت زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات وما نتج عنها من مبادرات إيجابية أن الحوار ممكن بين أتباع مختلف الأديان، بل يمكن للأديان أن تتحول إلى أدوات للحوار، قادرة على تكييف العمليات الثقافية وسط مجتمعاتنا، ونحن بأمس الحاجة إلى هذا الأمر خاصة في زماننا الراهن.
احتفال إيطاليا بيوم الحوار الإسلامي المسيحي، كما أشار الأب "سافينا"، عزز أهمية وثيقة الأخوة الإنسانية، انطلاقا من أنها تؤكد أن الإيمان بالله يحمل المؤمن على أن يرى في الآخر أخا ينبغي أن نساعده ونحبه، في إطار السعي إلى الدفاع عن الخليقة وكل كائن بشري لا سيما الأشخاص الأكثر ضعفا وفقرا.
النتاج الإيماني والإنساني للعلاقة بين الإمارات والفاتيكان، لا نغالي إن قلنا إنها أضحت ضوءا ساطعا في أول النفق وآخره، لأولئك الساعين نحو دروب الإيمان والسلام والمحبة والوئام، وهذا ما جرى في اللقاء الذي عقد هذا العام في المسجد الكبير بروما في التاسع والعشرين من يونيو/حزيران الماضي، وشارك فيه ممثلون عن مختلف الكنائس والأديان، فضلا عن مندوبين عن مختلف الجاليات الإسلامية الموجودة على التراب الإيطالي.
كانت وثيقة الأخوة الإنسانية هي محور النقاش في ذلك اللقاء، انطلاقا مما حوته من نظرة كونية للعائلة الإنسانية، نظرة لا تستثني أحدا، وإنما تدمج الجميع بأعين المحبة، وتعترف بحق كل كائن بشري في الحياة والبناء والنماء، ومن دون أدنى اختصام من كرامته.
لم تقتصر مشاركة ذلك اليوم على الجمعيات والهيئات المعترف بها مؤسساتيا شأن اتحاد الجاليات المسلمة في إيطاليا، والمركز الثقافي الإسلامي وغيرهما، إذ حضر أيضا ممثلون عن الجاليات القليلة العدد من المواطنين السنغاليين والبنغاليين والباكستانيين والأتراك، ما يعني أن المعنى والمبنى لوثيقة الأخوة الإنسانية قد بدأ يجد ردات فعل وصدى جيدين، وبموضوعية وموثوقية تعمق من الترابط الإنساني، وتجذر من جديد مشاعر الأخوة في وقت تتصاعد فيه دعوات القومية والشوفينية، كما يرتفع فيه المد الأصولي والإرهابي.
محطة ثانية جرت وقائعها نهار الإثنين التاسع والعشرين من أكتوبر، حين استقبل البابا فرنسيس معالي الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي في القصر الرسولي بحاضرة الفاتيكان الذي نقل إلى قداسته تحيات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
كانت الإمارات في هذا اللقاء ممثلة للعالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، كشاهد وموقع على وثيقة تتعلق بإشكالية إيمانية وإنسانية لا تزال محور حوار ونقاش، بل وجدال عميق في أوروبا وأمريكا، الموت الرحيم، الأمر الذي رفضه اليهود والمسيحيون والمسلمون.
هذه الوثيقة التي عبرت فيها الإمارات العربية المتحدة عن صوت العالم الإسلامي، أكدت أن أي فعل يختصم من الحياة البشرية التي يملكها الخالق وحده هو خاطئ شكلا وموضوعا، ومجرم من الناحية الأخلاقية والدينية.
في كلمته أمام الحضور أشار معالي الشيخ عبدالله بن بيه إلى أن "هذا اللقاء يأتي في سياق التعاون على الخير"، مؤكدا أن الحفاظ على النفس البشرية يعد من أبرز مقاصد الشريعة الإسلامية والقيم المشتركة بين الأديان، وأنه لا بد من التذكير بضرورة الحياة التي بدأت تمتد إليها أيدي العابثين من كل صوب، بالإجهاض قبل الإيجاد، وبالإرهاب والاحتراب أثناء الحياة، وبالإجهاز لدى الممات.
مشاركة معالي الشيخ "بن بيه" له معنى ومبنى واضح للغاية، وهو أن دولة الإمارات العربية تسعى دوما لإعلاء القيم المشتركة للعائلة الإبراهيمية وكل القيم الإنسانية التي تهدف إلى الخير وتحث على التعايش السعيد لا سيما أن هذه الجهود تأتي في عام التسامح.
من الإمارات إلى الفاتيكان دعوة لكي يستشعر كل مؤمن بأن هناك حاجة حقيقية لأن تتكامل أدوار المؤمنين، كل في موقعه وبمقدار تأثيره العولمي، من أجل استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية ذاك الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة