عامان على نزاع أوكرانيا.. مختبر لثورة «الذكاء الاصطناعي» في الحروب
في أوكرانيا، حرب تقليدية ظاهريا، ترتفع خلالها أصوات القذائف والغارات، والآليات تجوب الميدان، لكن في جوهرها ثورة تكنولوجية.
وتبدأ القصة من صباح يوم 1 يونيو/حزيران 2022، عندما عبر أليكس كارب، الرئيس التنفيذي لشركة تحليل البيانات Palantir Technologies، الحدود بين بولندا وأوكرانيا سيرًا على الأقدام، برفقة 5 من زملائه.
- عامان من الحرب.. مستشار وزير خارجية أوكرانيا يقدم لـ«العين الإخبارية» كشف حالة
- عامان على حرب أوكرانيا.. خبير روسي يكشف لـ«العين الإخبارية» خطط موسكو
وفي الجانب الآخر، انتظرته سيارات دفع رباعي، وانطلق الموكب مسرعا باتجاه كييف، ووصل إلى العاصمة قبل حظر التجول، وفقا لمجلة "تايم" الأمريكية.
وفي اليوم التالي، تم اصطحاب كارب إلى المخبأ المحصن بالقصر الرئاسي، ليصبح أول زعيم لشركة غربية كبرى يلتقي بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي منذ بداية الهجوم الروسي قبل ثلاثة أشهر من هذا التاريخ.
آنذاك، أخبر كارب، زيلينسكي بأنه مستعد لفتح مكتب في كييف ونشر بيانات شركته وبرامج الذكاء الاصطناعي لدعم الدفاع الأوكراني.
وعلى الرغم من أن الأوكرانيين لم يكونوا متأكدين مما يفكر به كارب، إلا أنهم كانوا على دراية بسمعة شركته، وهي شركة يونيكورن (يتجاوز رأسمالها المليار دولار) الأكثر سرية في مجال التكنولوجيا.
وفيما يتعلق بأعمالها السرية، فبفضل استثمار من ذراع رأس المال الاستثماري لوكالة المخابرات المركزية، قامت الشركة بتوفير برمجيات تحليل البيانات لإدارة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE)، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة الدفاع، ومجموعة من وكالات الاستخبارات الأجنبية.
وهنا، يقول جاكوب هيلبيرغ، خبير الأمن القومي الذي يعمل مستشارًا للسياسة الخارجية لكارب: "إنهم (شركتهم) تجار أسلحة الذكاء الاصطناعي في القرن الحادي والعشرين".
وأضاف، بحسب ما نقلته مجلة "تايم"، "أخبرني كارب أنه رأى في أوكرانيا الفرصة لإنجاز مهمة تاريخية متمثلة في الدفاع عن الغرب وإخافة أعدائنا".
ورأت أوكرانيا فرصة أيضاً في التعاون، إذ قال ميخايلو فيدوروف (33 عاما)، وزير التحول الرقمي الأوكراني الذي كان حاضرا في ذلك الاجتماع الأول بين كارب وزيلنسكي، إن "مهمتنا الكبرى هي جعل أوكرانيا معمل البحث والتطوير التكنولوجي في العالم".
وسرعان ما أدرك المسؤولون الأوكرانيون أن لديهم فرصة لتطوير قطاع التكنولوجيا في البلاد، ومن العواصم الأوروبية إلى وادي السيليكون، بدأ فيدوروف ونوابه تسويق ساحات القتال في أوكرانيا باعتبارها مختبرات لأحدث التقنيات العسكرية.
حرب بضغطة زر
وكان التقدم مذهلا، في عام ونصف منذ اجتماع كارب الأول مع زيلينسكي، أدمجت شركة "بلانتير" نفسها في العمل اليومي لحكومة أجنبية في زمن الحرب بطريقة غير مسبوقة.
وتستخدم أكثر من 6 وكالات أوكرانية، بما في ذلك وزارات الدفاع والاقتصاد والتعليم، منتجات الشركة.
وقال كارب إن برنامج Palantir، الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل صور الأقمار الصناعية، والبيانات مفتوحة المصدر، ولقطات الطائرات دون طيار، والتقارير من الأرض لتزويد القادة بالخيارات العسكرية، هو "المسؤول عن معظم الاستهدافات في أوكرانيا".
إذ يقوم البرنامج بمعالجة تلك المعلومات، بالإضافة إلى الرادار الذي يمكنه الرؤية من خلال السحب والصور الحرارية التي يمكنها اكتشاف تحركات القوات ونيران المدفعية.
وبالتالي يمكن للنماذج المدعمة بالذكاء الاصطناعي أن تقدم للمسؤولين العسكريين الخيارات الأكثر فعالية لاستهداف مواقع الخصم، حيث تتعلم النماذج (الخوارزميات) وتتحسن مع كل ضربة، وفق «تايم».
وبحسب المجلة الأمريكية، فقد أفاد المسؤولون الأوكرانيون بأنهم يستخدمون تحليلات بيانات الشركة في مشاريع تتجاوز بكثير الاستخبارات في ساحة المعركة، بما في ذلك جمع الأدلة على جرائم الحرب، وإزالة الألغام الأرضية، وإعادة توطين اللاجئين النازحين، واستئصال الفساد.
ويأتي ذلك كله في ضوء خطة شركة "بلانتير" التي كانت حريصة جدًا على عرض قدراتها لدرجة أنها قدمتها لأوكرانيا مجانًا.
لكنها ليست شركة التكنولوجيا الوحيدة التي تساعد المجهود الحربي الأوكراني، إذ عمل عمالقة مثل مايكروسوفت، وأمازون، وجوجل، وستارلينك على حماية أوكرانيا من الهجمات الإلكترونية الروسية، ونقل البيانات الحكومية المهمة، وإبقاء البلاد على اتصال، وخصصوا مئات الملايين من الدولارات للدفاع عنها.
فيما قدمت شركة Clearview AI الأمريكية، وهي شركة مثيرة للجدل تقدم خدمات للتعرف على الوجه، أدواتها لأكثر من 1500 مسؤول أوكراني، استخدموها للتعرف على أكثر من 230 ألف روسي على أراضيهم بالإضافة إلى المتعاونين الأوكرانيين.
وفي العام الأول للحرب، حشد فيدوروف "جيش تكنولوجيا المعلومات" المكون من 400 ألف «هاكر» متطوع للمساعدة في حماية البنية التحتية الحيوية ومواجهة الهجمات الإلكترونية الروسية.
كما أنشأت شركات أمريكية وأوروبية أصغر حجما، والتي يركز الكثير منها على الطائرات بدون طيار ذاتية التحكم، متاجر في كييف أيضا، مما دفع الشباب الأوكرانيين إلى إطلاق اسم "وادي التكنولوجيا العسكرية" على بعض مساحات العمل المشتركة المزدحمة في المدينة.
التغيير الأهم حربيا
وبحسب مجلة تايم، فإن التعاون بين شركات التكنولوجيا الأجنبية والقوات المسلحة الأوكرانية، التي تقول إن لديها مهندس برمجيات منتشر في كل كتيبة، يقود نوعًا جديدًا من التجارب في الذكاء الاصطناعي العسكري.
والنتيجة هي تسارع "أهم تغيير جوهري في طبيعة الحرب تم تسجيله في التاريخ"، كما قال الجنرال مارك ميلي، الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة الأمريكية، للصحفيين في واشنطن العام الماضي.
فبينما استخدمت روسيا وأوكرانيا أسلحة القرن العشرين مثل المدفعية والدبابات، يقول أوكرانيا وحلفائها من القطاع الخاص إنهم يلعبون لعبة أطول أمدا؛ إنشاء مختبر حربي للمستقبل.
وقال فيدوروف إن أوكرانيا "هي أفضل أرض اختبار لجميع أحدث التقنيات، لأنه هنا يمكنك اختبارها في ظروف الحياة الواقعية"، فيما اعتبر كارب أن "هناك أشياء يمكننا القيام بها في ساحة المعركة ولا يمكننا القيام بها في السياق المحلي".
وقال جورييت كامينغا، مدير السياسة العالمية في شركة RAIN، وهي شركة أبحاث متخصصة في الذكاء الاصطناعي الدفاعي، إن "أوكرانيا هي مختبر حي يمكن لبعض هذه الأنظمة التي تدعم الذكاء الاصطناعي أن تصل إلى مرحلة النضج من خلال التجارب الحية والتكرار المستمر والسريع".
أكثر خطورة فيما بعد
ومن بعد آخر، ففي الصراعات التي تدور رحاها باستخدام البرمجيات والذكاء الاصطناعي، حيث من المرجح أن يتم تسليم المزيد من القرارات العسكرية إلى الخوارزميات، فإن شركات التكنولوجيا قادرة على ممارسة قوة هائلة باعتبارها جهات فاعلة مستقلة.
لذلك، يحذر مسؤولو وخبراء الأمن القومي من أن هذه الأدوات الجديدة قد تقع في أيدي الخصوم، فيما قالت ريتا كونايف من مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة بجامعة جورجتاون: "إن احتمالات انتشارها جنونية".
وأضافت: "تقول معظم الشركات العاملة في أوكرانيا الآن إنها تتوافق مع أهداف الأمن القومي الأمريكي، ولكن ماذا يحدث عندما لا تفعل ذلك؟ ماذا سيحدث في اليوم التالي؟".
كما أن استخدام أوكرانيا للأدوات التي تقدمها شركات تكنولوجية، يثير أيضًا أسئلة معقدة حول متى وكيف ينبغي استخدام التكنولوجيا في زمن الحرب، فضلاً عن المدى الذي يجب أن تمتد إليه حقوق الخصوصية.
ويؤكد الرئيس التنفيذي لشركة Clearview، تون ثات، أن برنامج التعرف على الوجه الخاص به، مثل العديد من الأدوات الجديدة في هذا الصراع، هو "تقنية تتألق ولا تحظى بالتقدير إلا في أوقات الأزمات".
لكن جماعات حقوق الإنسان المنزعجة والمدافعين عن الخصوصية يحذرون من أن الوصول دون رادع إلى أداته، التي اتُهمت بانتهاك قوانين الخصوصية في أوروبا، يمكن أن يؤدي إلى مراقبة جماعية أو انتهاكات أخرى.
ومع ذلك، فإن قدراً كبيراً من السلطة في العصر الجديد، سيبقى في أيدي الشركات الخاصة، وليس في أيدي الحكومات المسؤولة أمام شعوبها.
وقال ستيف بلانك، الخبير التكنولوجي المخضرم والمؤسس المشارك لمركز جورديان نوت: "هذه هي المرة الأولى على الإطلاق، في الحرب، التي لا تأتي فيها معظم التقنيات الحيوية من مختبرات الأبحاث الممولة فيدراليًا، بل من تقنيات تجارية جاهزة".
وتابع "هناك سوق لهذه الأشياء. لذا فقد خرج الجني من القمقم".
لكن إجمالا، اعتبرت المجلة الأمريكية أن الجيل القادم من حروب الذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحله الأولى، كما يشكك بعض المسؤولين الأمريكيين في أنها ستلعب دورا حاسما بدرجة كبيرة في تحقيق نصر عسكري لأوكرانيا.