"هات الإزازة" و"ارخي الستارة".. كيف غيّر ميلاد أم كلثوم الغناء العربي؟
في ذكرى ميلاد أم كلثوم نستعيد فنها الذي خلد الأغنية العربية وأنقذها من الركاكة والابتذال، ومنح كوكب الشرق خلودا بكلمات أكبر الشعراء>
"أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه.. ملك الفؤاد فما عساي أن أصنع" كانت الأغنية الأولى التي لحنها الشيخ أبو العلا محمد لأم كلثوم، صعدت على المسرح أمام الجمهور وغنتها، فهل يمكن أن تنجح هذه الاغنية؟ كيف يرتبط الجمهور مع قصيدة مقفاة، بعد أن اعتاد "يا أبو الشريط الأحمر" و"الله يجازيكي يا ودانية". يعتبر كثيرون أن ميلاد أم كلثوم هو النعمة التي أنقذت الغناء العربي، فقد تختلف مع مواقفها أو تفضل الاستماع لغيرها، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر فضل ظهور أم كلثوم وإصرارها على غناء القصيدة العربية، بعد أن كادت الطقاطيق الخفيفة تحرم الفن من التطور، فكان لزاما أن يأتي نور كوكب الشرق ليُضيء الأغنية العربية.
ميلاد أم كلثوم
تحتفل المؤسسات الثقافية والأدبية والجموع الغفيرة المحبة بيوم ميلاد أم كلثوم في تاريخ غير صحيح كل عام، فما هو شائع عن إنها ولدت في 31 ديسمبر لعام 1898، تم تصحيحه بأكثر من ورقة رسمية وتحقيق صحفي، فالسيدة أم كلثوم إبراهيم السيد البتاجي ولدت في طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية في 4 مايو 1904، ورحلت بعمر 71 عاما في 3 فبراير 1975.
مشوارها الشخصي والفني يحفظه المحبون عن ظهر قلب، بداية من الكتاب وحفظ القرآن الكريم، ثم غنائها صدفة للتواشيح التي كان يحاول والدها أن يحفظها لأخيها الأكبر، وحتى مشاركتها فرقته التي جابت قرى ومراكز الدلتا تغني التواشيح والأناشيد، وأخيرا الإنصات لنصيحة الشيخ أبو العلا محمد بانتقالها إلى القاهرة أوائل عشرينات القرن الماضي.
أم كلثوم وغناء القصائد
في طفولة أم كلثوم والفترة التي تلتها حتى بدأت الغناء، كانت الطقاطيق والأغاني الخفيفة هي الأكثر انتشارا، فكان الجمهور قد اعتاد سماع منيرة المهدية وهي تقول:
"بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة
يا حلو فاكر وادي القمر
...
مستنظراك ليلة التلات بعد العشا
تلقى الحكاية موضبة
بإيدي قايدة الكهربا
..
اعوى تسهيني بقى
وإحنا في عز النغنغة
وتمد إيد وهزار يزيد
عارفاك أكيد
إيدك تحب الزغزغة"
أو أغنية نرجس المهدية:
"إيه العبارة إيه العبارة لسه في إيدي حرق السيجارة
ساعة وصالك يزيد هزارك حرقت قلبي بنار غرامك
ولحد إمتى تكويني نارك وحياة عيونك دي مش شطارة"
أو أغنيات ملكة الأسطوانات نعيمة المصرية، التي تقول في إحدى أغنياتها:
"تعالى يا شاطر نروح القناطر
هاودني ودينك ما تكسر لي خاطر
هات الإزازة واقعد لاعبني
دي المزة طازة والحال عاجبني"
وكان لكل مغنية منهن وغيرهن كثيرات شعبية لا يمكن مضاهتها وحضور قوي بأغنياتها في كل الاحتفالات الرسمية والشعبية، فالقصائد والتواشيح لم يكن شائعا غناؤها، وجمهورها نادر، ولكن أصرت أم كلثوم أن تغني القصائد العربية رغم أنها واجهت الرفض وأحيانا الإهانة.
تتذكر في أحد لقاءاتها، عندما صعدت المسرح تغني بصحبة والدها جزءا من قصيدة وموشح ديني، فقابلها الجهور بالصفير وكأنه يريدها أن تتوقف، فأسدل الستار ولكن شعورها بالغيظ والضيق أفلت منها عبارة سبت فيها أحد الحضور الذي تطاول عليها، وعندما سمعها همّ أن يضربها، فضربها والدها وكأنه يعاقبها أمامهم فلا يعتدوا عليها".
ومرة أخرى، حين طالبها أحد الحضور السكارى في حفل بالدقهلية أن تتوقف وتغني "يا ليل يا عين"، وحين رفضت هددها بمسدس يحمله، ولكنها لم تتراجع "قولت له لو راجل أضرب"، وظل والدها يحاول احتواء الموقف بينما هي تتحدى الرجل، حتى أنقذهم منه بعض المعارف، وخرجوا سالمين.
أغاني أم كلثوم
كان واضحا أن أم كلثوم لن تتنازل، ولن تغني سوى كلمات أصيلة راقية، وإن لم تكن البدايات موفقة، فرحيلها وهي محمولة على الأعناق باعتبارها رمزا مصريا وعربيا وهرما رابعا كان كافيا ليشهد بأنها أيقونة الطرب والغناء التي انتشلته من الركاكة والضياع.
منذ ميلاد أم كلثوم وهي تحمل معها صوتا قويا متفردا، وأبهرت العالم كله بذكائها وقدرتها على أن تفرض حضورها على ساحة الغاء العربي والعالمي، مهما بدا ذلك صعبا مليئا بالتحديات، فكان انتصار أم كلثوم الأول للكلمة، وتعاونت مع أهم شعراء جيلها الذي كان صوتها نجدة لكلماتهم من النسيان.
وغنت قصائد أحمد رامي وأبو فراس الحمداني وأحمد شوق وإبراهيم ناجي وصلاح جاهين وعمر الخيام وبيرم التونسي نزار القباني، وقالت:
"أغدا ألقاك.. يا خوف فؤادي من غدي
ألا شوقي واحتراقي في انتظار الموعد
آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا"
وفي "الأطلال" غنت:
"يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله
واروي عني طالما الدمع روى"
وكما غنت القصائد بحرفية، عبرت عن مشاعر الشوق والحب بكلمات عامية وإحساس عالي، فقالت:
"فين أشكي لك فين
عندي حاجات وكلام وحاجات
فين دمعك يا عين
بيريحني بكايا ساعات
..
بخاف عليك وبخاف تنساني
والشوق إليك على طول صحاني
غلبني الشوق وغلبني
وليل البعد دوبني"
وي كل عام تأتي ذكرى ميلاد أم كلثوم تستحق منّا أن نحتفل بصوت لم تنجب الأمة العربية مثله، وقامة نهضت بالغناء العربي واحتفى بها العالم، وقال عنها الصحفي فكري أباظة "هي تحفة العصر ومعجزة الدهر، قد تمر قرون أجيال، فلا تلد مثل هذا الكمال"، ورشيد كرامي رئيس ةوراء لبنان الأسبق "إنها إذ رفعت من مستوى الغناء العربي، ما استحقت عليه الخلود في هذه الدنيا"، والكاتب يوسف السباعي "فن أم كلثوم تراثا خالدا تتغنى به الدنيا، وسيظل مشعلا هاديا يضيء طريق الفن العربي".