"التحدُّث بنعمة الله".. من نوادر السيرة الذاتية التراثية
ضمَّن الإمام جلال السيوطي سيرته الذاتية بقلمه في كتاب "التحدُّث بنعمة الله" الذي حقّقتْه "إليزابث ماري سارتين" ونشرته بالقاهرة سنة 1972
خلال الفترة من القرن الثاني للهجرة وحتى نهاية القرن العاشر (أو الحادي عشر)، شهد التراث العربي حركة تأليفية واسعة في مجال التراجم والطبقات وتدوين سير الرجال والتأريخ للأعلام في كل المجالات؛ خاصة ما يتصل منها بالعلوم الدينية كالفقه والحديث والتفسير والسيرة النبوية.. إلخ. وكان مما يتصل بهذا اللون من التأليف الذي يقوم على كتابة وتدوين سيرة حياة الأشخاص بمعرفة أناس آخرين، أن يقوم كاتب ما أو مؤلف معروف أو عالم أو شاعر بكتابة سيرته الذاتية بنفسه، ويؤرخ لحياته ويسجل زمنيا وتاريخيا لمراحلها المهمة كما يقدم كشفا بأبرز وأهم ما قدمه من أعمال وترك من مؤلفات.
في إطار هذا النوع الثاني، يأتي هذا الكتاب التراثي القيم «التحدث بنعمة الله» للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي (849هـ -911هـ/ 1444م – 1505م)، أحد أبرز أعلام هذا التراث وأشهرهم بلا جدال، وهو عالم أديب مثقف موسوعي شامل من أبرز علماء مصر في العصر المملوكي، كان يعد دائرة معارف عصره، وهو إمام مرموق من أئمة الحديث، وله مؤلفات جمة في علومه، وفي التفسير والفقه واللغة والأدب والتاريخ والنحو، زخرت بها المكتبة العربية.
وقد ضمَّن السيوطي سيرته الذاتية بقلمه في كتاب «التحدُّث بنعمة الله» الذي حقّقتْه "إليزابث ماري سارتين"، ونشرته بالقاهرة سنة 1972. ثم أعادت سلسلة الذخائر التي تصدر عن قصور الثقافة بالقاهرة إصداره في طبعة جديدة بتقديم ودراسة الدكتور عوض علي الغباري، أستاذ الأدب المصري، ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة. وعن هذه الطبعة، جاءت الطبعة الجديدة التي صدرت قبل أيام عن دار آفاق للنشر والتوزيع.
يتناول كتاب "التحدث بنعمة الله" سيرة عالم عظيم جليل القدر واسع المعرفة غزير التأليف والإنتاج، ورمز من رموز الحضارة العربية الإسلامية؛ هو الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي (849هـ - 911هـ) / (1444-1505م)، ويعد السيوطي بغزارة إنتاجه وكثرة تآليفه، عالما موسوعيا جليلا، وظاهرة فريدة في الثقافة العربية الإسلامية، وقد كان علماً ومرجعاً في علوم اللغة والعلوم الإسلامية والتاريخية، وقد بلغ النشاط اللغوي ذروته الرفيعة في مصر، على يديه، إذ كان "أغزر العلماء المصريين، زمن المماليك بعامة، تأليفاً وتصنيفاً في جميع الميادين الإسلامية واللغوية"، بعبارة بعض من كتبوا عنه من المعاصرين.
ومن الغريب بل اللافت أن على كثرة من تناولوا وألفوا عن سيرة وحياة الإمام السيوطي في العصر الحديث لم يتنبهوا إلى هذا الكتاب، ولم يتوقفوا كثيرا عند تفاصيله الغنية، ولا على منهجه الفريد في التأليف ولا المعلومات شديدة الأهمية التي أوردها عن صاحبه.
وقد قامت إليزابث ماري سارتين (E.M.Sartain) بتحقيق هذا الكتاب، ونشرته بالقاهرة سنة 1972، كما نشرت دراسة عنه باللغة الإنجليزية بعنوان: "Jalal al din al-Syuti, “Al Tahaduth bini’mat Allah" وقد كان لهذه الترجمة الذاتية للسيوطي قيمة كبيرة في تعريفنا بشخص السيوطي وعصره، وقد تقدَّمَتْ بها المحقِّقة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كمبردج.
وفي دراسته الاضافية التي قدم بها للكتاب، يذكر الدكتور عوض الغباري، أن كتاب «التحدث بنعمة الله» سيرة متفردة ركَّز السيوطي فيها على رحلة حياته العلمية التي قدَّمها بأسلوب سردي قصصي، عكس تداخل أدب السيرة الذاتية بفن القصة، كما عكس تداخل أدب السيوطي في سيرته الذاتية بمقاماته.
ويشير الغباري إلى أن التتبع النقدي لهذه السيرة قد أدى إلى الكشف عن صورة الحياة العلمية للسيوطي، وقد كانت هدفا لكتابة سيرته التي وردت في إطار إسلامي تمثَّل في شكره لنعمة الله الذي وهبه التبحر في العلوم العربية والإسلامية التي كان له دور عظيم في تأصيل مفاهيمها، وتجديد قضاياها، والتأليف الموسوعي فيها، ممَّا أمدَّ المكتبة العربية بكتب قيِّمة في مناحيها المختلفة، انعكاسا لصورة الأدب والعلم، ومفهومها الموسوعي في التراث العربي الذي مثَّله السيوطي في مصر في عصره.
ولمَّا كانت هذه السيرة الذاتية للسيوطي، بحسب الغباري، قد تفرَّدَت في سياق السير العربية بتصويرها لرحلة السيوطي العلمية، وهدفه الديني، فقد تفرّدت، كذلك، بالكشف عن ذات مبدعها، وعن الأبعاد الإنسانية الرائعة لشخصيته؛ عالما أديبا فقيها صالحا متصوِّفا مصريا عربيا إسلاميا أصيلا، لم يمنعه حسد معاصريه من العلماء عن أداء رسالته التي آمن بها؛ متمثلة في تأليفه الناضج الغزير، وحرصه على عروبته، وزَوْده عن ثقافته العربية، وحضارته الإسلامية، وشخصيته المصرية. وقد تجلّي ذلك جميعه في صُوَر أدبية عكست شخصيته الأدبية المصرية في إطارها الذي يدور في بُعْده العربي الإسلامي.
لقد حدَّد السيوطي سيرته الذاتية بهدف أخلاقي نبيل، وقد صهرته التجارب التي عبَّر عنها تعبيرا إنسانيا وجدانيا فنيا جميلا كشف عن تحقُّق غاية السيرة الذاتية في "التحدُّث بنعمة الله"، وحرص السيوطي على التدرج الزمني في سرد أحداث حياته، كما جعل سيرته الذاتية مُتَنَفَّسا لمشاعره الصادقة العميقة، وبوحا بمعاناته مع الحاقدين من خصومه الذين حسدوا مكانته العلمية والأخلاقية الرفيعة التي جسَّدها بتكوينه النفسي والشخصي الذي تحلَّي فيه بأخلاق العلماء الذين أدّبهم علمهم. وقد توافق السيوطي، بهذه المعطيات التي تجلّت في سيرته الذاتية، مع معطيات هذا الفن، وقدَّم القدوة والمَثَل الذي يتحقَّق في الشخصيات العظيمة التي تؤثِّر في نفوس الناس، بحسب مقدم الكتاب.
ويكشف الغباري ما ماجت به السيرة الذاتية للسيوطي في كتاب «التحدُّث بنعمة الله» بكثير من التناص مع القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي والمَثَل والحكمة ومصطلحات العلوم والفنون العربية والإسلامية، فضلا عن تعبيرها عن الشخصية الأدبية المصرية، ممّا يجعل هذه السيرة إضافة مهمة إلى السير العربية.