قوة الإمارات الناعمة في مواجهة الإرهاب
يمكن تلخيص التجربة الإماراتية في مواجهة الإرهاب من خلال القوة الناعمة التي تبدو في نشر قيم التسامح والتعايش معا.
تمثل الزيارة التاريخية المنتظرة لقداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية لدولة الإمارات العربية المتحدة ملمحا بارزا للدور الملحوظ لدولة الإمارات في تفكيك أفكار التطرف من خلال رسم خطوط التعايش السلمي والأخوة الإنسانية باستقبال رمزين دينيين في توقيت واحد، حيث يحل فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف ضيفا عزيزا على إمارات الخير والأخوة الإنسانية في الوقت نفسه.
زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية وشيخ الأزهر الشريف المشتركة لم تكن عفوية، إذ وجهت الدعوة لهما، فأصبحت الإمارات بذلك الدولة السابعة ذات الأغلبية المسلمة التي يزورها البابا بعد مصر وأذربيجان وبنغلاديش والأردن وفلسطين وتركيا، كما أصبحت الإمارات من أهم الدول الداعمة لدور أكبر المؤسسات الدينية في العالم العربي ممثلًا في الأزهر الشريف وشيخه "الطيب".
دور الإمارات العربية المتحدة واضح في تعزيز دور الأديان والقيم المشتركة، وهي التي تمتلك تاريخا مشتركا من التعايش بين الأديان وحرية ممارسة الشعائر الدينية، فقد تأسست أول كنيسة كاثوليكية بأبوظبي في عام 1965، وهو دور تثمنه دولة الإمارات بقيادة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، كما أولاه الشيخ المؤسس وحكيم العرب المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان اهتمامًا بالغًا.
للإمارات دور رائد قديم وحديث مع إرادة ومساحة من التعايش السلمي أرساها حكام الإمارات على مدار العقود الماضية، وهو ما يؤكده علماء الآثار الذين أثبتوا وجود كنيسة ودير على جزيرة صير بني ياس يرجع تاريخها للقرن السابع الميلادي، وهو ما يؤكد هوية الدولة الوطنية ومدى احترامها للتنوع الثقافي والديني داخلها.
ولتأكيد المعنى الحقيقي للتسامح فإن دولة الإمارات من أولى الدول التي قامت بتشكيل أول وزارة للتسامح على مستوى العالم، وأطلقت في ذلك "البرنامج الوطني للتسامح"، الهدف منه غرس قيم التعايش السلمي داخل المجتمع، هذا بخلاف عشرات من المبادرات التي تهدف إلى نشر قيم التسامح، ومكافحة ثقافة العنف والتطرف والتعصب.
قيم التسامح وأبعاد زيارة البابا وشيخ الأزهر
الإمارات العربية المتحدة من أهم الدول التي تمتلك رؤية رصينة ذات أبعاد متنوعة لمواجهة جماعات العنف والتطرف الديني والمذهبية المقيتة، فضلًا عن دورها في مواجهة الطائفية الدينية، ولعل هذه القيم تُعبر عن الدلائل الكامنة في زيارة البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الشريف، ودلالة الزيارتين في توقيت واحد.
رسمت الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها مجتمعًا للتعايش السلمي متنوعًا، احترمت فيه القيادة هذا التنوع، ليس هذا فحسب بل ووجدته عنوانًا للثراء، فأصبحت الإمارات أغنى من مثيلاتها من دول الجوار في نشر قيم المحبة، فغاب عن مجتمعها دعاة العنف والتطرف أو قل واجهت هؤلاء بقيم المحبة حتى ماتت أفكارهم قبل أن تتكاثر.
الملمح الأهم في استراتيجية الإمارات العربية المتحدة الذي أرسته لمواجهة أفكار التطرف والكراهية والإرهاب، أنها قامت بمواجهة هذه الأفكار من خلال نشر أفكار مضادة تدعو للتسامح والتعايش والسلام وإبراز الصورة الحضارية للإسلام، مع نشر وترويج الخطاب الديني المعتدل عبر المؤسسات الدينية المؤتمنة على ذلك، فنجحت في إظهار الجانب الحضاري في الإسلام الذي يحاول المتطرفون طمس معالمه وإشاعة لغة الدم والقتل فقط عن الإسلام وكأنها لغته وشعاره.
نشرت الإمارات العربية المتحدة قيم المحبة والتسامح، واحتضنت جميع الأديان وأتاحت عن حب حرية ممارسة الشعائر، فكان ذلك سلاحها في مكافحة الأيديولوجيات والأنشطة الإرهابية، معتبرة ذلك التحدي الأهم والأخطر ليس فقط في مواجهة الأفكار المتطرفة على أراضيها، وإنما على اتساع رقعة المواجهة التي اختارت أن تواجهها للتطرف والإرهاب في أي مكان يحاول أن يطل برأسه منه.
نشرت الإمارات قيم التسامح كسلوك مجتمعي في الدولة، باعتباره لا ينفصل من ناحية عملية عن تحقيق الدولة أعلى معدلات للسعادة بين الدول العربية الأخرى، ونشر هذه الثقافة من باب أنها تناقض ثقافة التطرف والكراهية، فإنها تتعامل مع هذه القيمة على مستويين أحدهما يتعلق بالمجتمع وتحقيق نسب التنمية البشرية بداخله فيصير مجتمعًا متقدمًا، والمستوى الثاني مرتبط بمواجهة أي بؤر للتطرف داخل المجتمع أو الوقوف أمام أي أفكار قد تنمو بداخله وتُهدد أمنه وتأخذ شكل الإرهاب.
وفي سبيل تحقيق هذه القيمة أنشأت الإمارات العربية المتحدة وزارة للتسامح، بغرض ضمان استمرارية ترسيخ قيم التسامح والتعايش والحوار، واحترام التعددية الثقافية وقبول الآخر من جهة، مع نبذ كل أشكال التطرف والكراهية والعنف والعصبية والتمييز من جهة أخرى.
وزارة التسامح معنية بأن تصل مبادرة صوت التسامح إلى كل فرد داخل المجتمع، كما يأتي إنشاء مركز الإمارات للتسامح وإطلاق برنامج المسؤولية التسامحية مع إنشاء مجلس المفكرين للتسامح وإطلاق الدليل الإرشادي الإماراتي للتسامح، وغيرها من المبادرات لترسيخ قيم التسامح واستمرارها عبر الأجيال، ومواجهة ثقافة الكراهية داخل المجتمع على المدى البعيد أو الوقوف أمام أي أفكار قد تُهدد النسيج الاجتماعي عبر عمليات القرصنة الفكرية والاعتداء الجسدي، علامات بارزة وأدوار فاعله في مواجهة التطرف من خلال قوتها الناعمة التي أنشأتها.
كما قامت دولة الإمارات بإدخال مناهج التربية الأخلاقية إلى المنظومة التعليمية، إيمانًا بأن تعليم الأخلاق من أهم عوامل مكافحة التطرف، باعتباره من الأدوات الرئيسية لتكوين جيل متسامح بعيد عن التعصب والتطرف، حيث قامت وزارة التربية والتعليم بتنفيذ توجيهات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في هذا الإطار.
في إطار هذه المساحة الخلاقة التي نسجتها الإمارات تعبيرا عن قيم التسامح، قامت الإمارات بتأسيس مراكز معتمدة للفُتيا، لمواجهة الغلو والتطرف والتحصين ضد مناهج التكفير والتطرف، هذه المراكز تُوفر الأجوبة الشرعية الدقيقة والسليمة لكل الاستفسارات على مدار الساعة، من خلال مراكز اتصال هاتفية وإلكترونية تعمل على مدار الساعة، كمحاولة للوقوف أمام تسرب أية أفكار منغلقة ومتطرفة.
علاقة الإمارات بالتسامح رسمتها سياسات راشدة أرساها شيوخ الإمارات وحكامها، وفي مقدمتهم القائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، فجاءت استضافة قداسة بابا الكنيسة الكاثوليكية وفضيلة شيخ الأزهر الشريف ترجمة لقيم التسامح والتعايش التي وجدت بيئتها في حكماء أرسوا قواعدها ورسموا مستقبلها.
اختطت قيادة الدولة نهجاً قائمًا على تحقيق التسامح داخل الإمارات حتى أصبحت عاصمة للتسامح وبيئة للتعايش، فأظهرت مؤشرات عالمية معتمدة وفق قراءة دقيقة أن الإمارات من أهم الدول التي تحتل فيها قيم التعايش والتسامح والمحبة جانبا كبيرا، وهي التي خلقت مجتمعًا سعيدًا فبات شعبها من أسعد شعوب المنطقة.
قوة الإمارات الناعمة في تسامحها
تقدم الإمارات العربية المتحدة الخطاب الديني المعتدل والوسطي في سياقات التعايش والتسامح بين مكونات المجتمع الواحد، ولعل ذلك من أهم ملامح الاستراتيجية الخاصة بمواجهة الإرهاب من خلال قوتها الناعمة التي ترمي لترسيخ هذه القيم عبر قيم التعايش بين كل أصحاب الديانات.
لم يكن دور الإمارات العربية المتحدة نظريًا في الدعوة للتعايش، حيث شيدت أكبر معبد هندوسي في منطقة الوثبة بإمارة أبوظبي، فكان خير مثال للتسامح الديني وقبول الآخر في دولة يقيم فيها جنسيات مختلفة ولكنهم يعيشون في تناغم وحب.
تعتقد الإمارات العربية المتحدة أن دور العبادة التي تُشيدها في كل الإمارات تصب في فكرة تعزيز الأمن الفكري، وترسيخ الاعتدال والانتماء الوطني في الوقت نفسه، وبناء معرفي وسلوكي للمستفيدين من الديانات الأخرى أو من يتم استهدافهم، مع تعزيز فرص اندماج أصحاب هذه الديانات داخل المجتمع وقتل أي أفكار أخرى تدعو للتطرف في مهدها كأحد أساليب الوقاية.
ويمكن أن نذكر في هذا الجانب أن قوة الإمارات الحقيقية في تسامحها، فقد نجحت في عقد مؤتمر للأديان في الفترة ما بين 13 و14 ديسمبر/كانون الأول في عام 2014، وهو يترجم قدم دورها في نشر قيم التسامح، وقبلها قامت بتدشين مجلس حكماء المسلمين في 19 يوليو/تموز من عام 2014، وهو عبارة عن هيئة مستقلة تتألف من 14 عالمًا إسلاميًا من أجل تعزيز قيم التسامح الجوهرية في الإسلام الحنيف.
لم يغب عن الإمارات الجانب الديني والثقافي، فهو جزء لا يتجزأ من استراتيجية الإمارات لمكافحة التطرف من خلال تفكيك أفكاره، حيث قامت الدولة من خلال الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بغرس قيم الوسطية والاعتدال والتعايش والتسامح في المجتمع وتعزيزها، باعتبارها حائط الصد الرئيسي في مواجهة التطرف الذي يتربص بالمجتمعات العربية والإسلامية، والإسهام في تنمية الوعي الديني والثقافة الإسلامية من خلال دعم الجهود البناءة، التي تسير في اتجاهات عدة، لعل أبرزها: دعم جهود إصلاح الخطاب الديني، والعودة إلى الصورة السمحة للدين الإسلامي الحنيف على أساس من شأنه التصدي لنزعات التطرف والتشدد التي يحاول البعض فرضها على الخطاب الديني.
وهنا لعبت الإمارات دورًا مهمًا في دعم المؤسسات الدينية الوسطية في العالمين العربي والإسلامي مع احتضانها للتنوع الثقافي والديني معًا، مع الدفع في تعزيز قيم التعايش المشترك، ومن أهم المؤسسات التي قامت بدعمها في هذا الإطار مؤسسة الأزهر الشريف.
استنساخ التجربة الإماراتية
يمكن تلخيص التجربة الإماراتية في مواجهة الإرهاب من خلال القوة الناعمة التي تبدو في نشر قيم التسامح والتعايش معًا، وهو ما يُظهر الأبعاد الاستراتيجية الإماراتية وإمكانية استنساخ هذه التجربة في بلدان عربية وغير عربية.
فالإمارات من أوائل الدول التي سعت إلى توصيف ظاهرة الإرهاب بشتى أنواعه، وتحديد هويات منظماته، وصنوفه، تمهيدًا لمواجهته والتحذير منه، فقراءتها للخطر كان أسبق وأعمق من كل دول المنطقة، بل كان أسبق بُعدًا من الدول الكبرى التي كانت تُحركها أجندات المصلحة، فاختارت أن تكون المواجهة عملية من خلال تفكيك أفكار التطرف من خلال نشر قيم التسامح.
كما قامت دولة الإمارات بدعم الاستقرار السياسي والاجتماعي مستغلة في ذلك القوة الناعمة، دور فرضته الظروف ولكنها كانت أسبق لتبني أي رؤى من شانها أن تنزع فتيل النزاعات والصراعات التي تغيب فيها السلطة.
التجربة الإماراتية في مواجهة الإرهاب بالقوة الناعمة يمثل فيها التسامح والتواصل والحوار الركن الأساسي، ترجع إلى ريادة الدولة في مواجهة الإرهاب أولا وخبرة صانعيها ونجاحهم في تطبيقها ثانيًا، وهو ما يُرشح تكرارها في عواصم عربية وأوروبية أخرى واستنساخها، فهي من أهم التجارب الرائدة والجيدة في الوقت ذاته، فمن المهم التعرف عليها والتعامل مع آلياتها حتى تلوح نتائجها في الأفق.
من يدرس المجتمع الإماراتي من الداخل بدقة، يلحظ أيضًا غيابًا تامًا لأي خطاب يدعو للكراهية من داخله، أو تحريض طائفي أو ديني أو عرقي، كما أن الممارسات العامة السائدة بين المواطنين داخل هذا المجتمع والمواطنين والمقيمين تسودها روح التعايش الخلاق، وتكاد تتشابه في بعدها عن الاستفزازات وسلوكيات العنصرية والبغضاء.