ما بعد قمة هلسنكي لن يقتصر على الجانبين الروسي والأمريكي فقط، بل سيمتد إلى دول وأقاليم أخرى سيكون تأثيرها ممتدا.
جاءت فعاليات قمة هلسنكي التي عقدت مؤخرا بين الرئيسين ترامب وبوتين في ظل توقيت بالغ من عمر النظام الدولي، وفي إطار استمرار تعقد بعض الأزمات الإقليمية والدولية، والتي يتواجد فيها الجانبان الأمريكي والروسي بطبيعة الحال إما بالحضور الاستراتيجي، وإما بالتأثير المباشر وغير المباشر، وهو ما يدفع بطبيعة الحال إلى ضرورة التنسيق إما بالاتفاق أو بتقاسم الأدوار، أو مقايضة الملفات، وهو ما جرى مبدئيا في قمة هلسنكي، وسيبنى عليه في الفترة المقبلة.
أولا: تمضي العلاقات الأمريكية الروسية وفقا لمنهج مصلحي يخلو من أزمة هيكلية حقيقية على عكس ما هو شائع، وترديد بعض الشعارات التي لم يثبت بعد مدى مصداقيتها بشأن تدخل روسيا في توجيه مسار الانتخابات الأمريكية، وأنها عبثت بالأمن القومي الأمريكي، وهو أمر يجري التحقق منه في دوائر الكونجرس، وسيستمر بعض الوقت، وغيرها من الملفات محل التجاذب الثنائي منها ملف العقوبات المفروضة على روسيا منذ مرحلة الحرب في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، وهو ما يشير إلى وجود أزمات مكتومة محل تنازع ثنائي ومتعدد، وأن روسيا مثل الولايات المتحدة لها مصالح كبرى في أقاليم عدة، ومن ثم لا يجب النظر إليها على أنها دولة كبرى فقط.
ومن ثم فإن الرهانات الأمريكية الحالية تصب في إطار ضرورة التعامل مع روسيا كلاعب مركزي ومقابل مع الولايات المتحدة وهو ما تم إقراره في القمة، وليس أي طرف آخر بما في ذلك الصين التي ما تزال في حال حرب تجارية حقيقية مع الولايات المتحدة، وأنها مثل اليابان تمثل خطرا حقيقيا على قطاعات مهمة في الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من حال من الخلل في تعاملاته الخارجية مما يتطلب مراجعة أمريكية حقيقية تمت مؤخرا في قمة مجموعة الـ7، والتي دفعت الرئيس ترامب ولأول مرة بالمطالبة في القمة بضرورة عودة روسيا إلى المجموعة رغم وجود العقوبات الغربية، والمعنى أن الولايات المتحدة تريد إحداث توازنات حقيقية في المنظومة الدولية وليس استبدال حليف بآخر، وأن روسيا يمكن أن تكون بديلا تكتيكيا عن الاتحاد الأوروبي.
الحديث عن مقايضات حقيقية وارد بعد القمة فأوكرانيا مقابل سوريا، وحل أزمة الصراع العربي الإسرائيلي، والقبول بالمشروع الأمريكي أو بدائله في الشرق الأوسط يقابله رفع العقوبات عن روسياثانيا: إن الحديث عن مقايضات حقيقية وارد بعد القمة، فأوكرانيا مقابل سوريا، وحل أزمة الصراع العربي الإسرائيلي والقبول بالمشروع الأمريكي، أو بدائله في الشرق الأوسط يقابله رفع العقوبات على روسيا، وإعادة تأهيلها لتواجه الخيارات السياسية والاستراتيجية كافة في مناطق متعددة لن تكون قاصرة على روسيا، بل ستمتد بطبيعة الحال إلى الأمن الأوروبي، بل ستمتد إلى جنوب شرق آسيا لتصل إلى ما يجرى ويخطط له في كوريا الشمالية، وتنفيذ استحقاقات سنغافورة التي تسعى الإدارة الأمريكية إلى التوصل إليها، وبالتأكيد سينتهي التعامل مع الاتفاق النووي الإيراني وآليات التعامل معه، وهو ما يشير إلى أن روسيا ستكون ضمن أي اتفاق حقيقي جديد أو تطوير ما هو قائم من خلال الجانب الأوروبي، ومن ثم فإن روسيا ستكون شريكا في حلحلة الأزمات الإقليمية والدولية بما فيها الأزمات التي تواجدت فيها على الهامش.
ومن مصلحة الرئيس بوتين أن يقبل ما هو مطروح، ولعل ما بعد قمة هلسنكي ما يشير إلى هذا، وسيدفع بقوة للتنفيذ مع الإدراك الثنائي بأن الخلافات -وإن كانت كبيرة- إلا أنها يمكن أن تحل في ظل تشكل إرادة سياسية حقيقية جديدة يمكن البدء بها، خاصة أن هناك تحذيرات طرحت قبل القمة من قبل عدد من نواب الكونجرس للرئيس ترامب بعدم القفز من مشكلة لأخرى، والتركيز على الإطار العام وليس أزمات بالاسم، وعدم الاندفاع الأمريكي تجاه روسيا، وهو ما يعني أن الرئيس الأمريكي بوتين لم يحسم بالفعل في قمة هلسنكي الملفات العالقة بصورة جذرية، وهو أمر كان متوقعا، ولحين البدء في التوصل لنقطة توافق في العموميات للعمل، وهو ما تفهمه الرئيسان ترامب وبوتين في القمة، وعملا على طرحه من خلال ما يراه كلاهما من مصلحة تخص توجهاته، فبوتين حصل على اعتراف أمريكي بمكانة روسيا الكبيرة، وترامب يقدم أوراق اعتماده لولاية جديدة.
ثالثا: ستقف دول الاتحاد الأوروبي في دائرة محددة بعد قمة هلسنكي، خاصة مع الرهانات الأوروبية، على أن أي توافق أمريكي روسي سيمس الأمن الأوروبي، خاصة في ملف حلف الناتو، ولعل ما دار في قمة بروكسل مؤخرا والتراشق بين الولايات المتحدة ودول مثل ألمانيا وفرنسا، بصرف النظر عن اللقاءات الدبلوماسية والتصريحات الإيجابية، يؤكد أن المسألة تتجاوز مطالبة الرئيس الأمريكي بالفعل زيادة الإنفاق العسكري أو العمل معا، والتهديد بوقف بعض أنشطة الحلف أو تأجيل إجراء بعض المناورات كما هو مقدر، ومن ثم فإن الاتحاد الأوروبي لديه تحفظات على ما جرى في هلسنكي، وسيستمر بالتأكيد، خاصة أن الأمر سيطول ويتعلق بملف الأسلحة الاستراتيجية وستارت 3 تحديدا والاتفاق النووي مع إيران، وسيمر بملفات أمن الطاقة والنفط، وإن كانت هناك توقعات ستتضح في المدى المنظور بعد قمة هلسنكي، ومنها إمكانية حدوث اختراقات حقيقية في إدارة الملفات الإقليمية المتنازع على إيجاد حلول ولو مؤقتة، حيث ليس بمستبعد التوصل إلى صيغة تبدأ من تسوية الأمور في شرق أوكرانيا، حيث يمكن كما هو واضح من نتائج القمة، والبدء بحل سياسي مع تعهد روسي بعدم التدخل في شئون أوكرانيا يتضمن حكما ذاتيا في منطقة دونباس، وحل موضوع المراقبين على الحدود مع روسيا وتبادل الأسرى، مقابل البدء في تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا.
والأمر نفسه في قضايا أخرى ستتعلق بوضع الضوابط والمعايير الخاصة بمواجهة الهجمات الإلكترونية، وكذلك حل بعض الخلافات التكتيكية في الملف النووي الإيراني، حيث يمكن لروسيا استمرار الضغط على الاتحاد الأوروبي للتوصل لصيغة توافق أوروبي أمريكي تقر بمعادلة جديدة في الاتفاق الجديد بين الأطراف المعنية.
رابعا: لم تحظَ قضية الصراع العربي الإسرائيلي بأية أولويات حقيقية في قمة هلسنكي أو قبلها، على الرغم من أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس زار موسكو قبل القمة، وشارك في الحضور في نهائي كأس العالم، كما قامت وفود فلسطينية بزيارة لموسكو لدفعها لاستئناف دورها في الاتصالات الفلسطينية الدولية، إلا أنه من المستبعد في مثل هذه الأجواء أن تدعو روسيا لمؤتمر موسكو لسلام الشرق الأوسط، أو أن تمارس دورا جديدا في الاتصالات الفلسطينية الدولية، وإن تم ذلك فسيكون في إطار ما يعرف باللجنة الرباعية، خاصة أن الإدارة الأمريكية عزفت تماما عن التدخل لدى روسيا لدفع الجانب الفلسطيني لاستئناف الاتصالات مع الجانب الأمريكي، خاصة مع استمرار الموقف الفلسطيني في رفض أي دور أمريكي بمفرده والمطالبة بدور دولي.
والرسالة هنا أن الجانبين الأمريكي والروسي لم يطرحا صيغة للتعامل في ملف الشرق الأوسط، والاكتفاء بإقرار المعطيات الراهنة لبعض الأطراف العربية في الإقليم مثلما جرى في الشأن السوري، حيث تم التأكيد على أمن إسرائيل والتجاوب مع الاحتياجات الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية خاصة في مداها القصير، خاصة من قبل الجانب الروسي الذي تفهم طبيعة المتطلبات الاستراتيجية الإسرائيلية، والتي ركز عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في زياراته المتكررة لموسكو، والتي كان آخرها منذ أيام قليلة وسلم بها الرئيسان في القمة.
خامسا: ستبقى بعض الملفات بين الجانبين بعد هلسنكي في حاجة إلى حسم، ومنها استمرار معارضة الجانب الأمريكي مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2، لأنه سينافس إمدادات الغاز الطبيعي المسيل القادمة من الولايات المتحدة، وهو ما ستتوقف أمامه روسيا، خاصة أنه مشروع كبير وعملاق للمصالح الروسية، كما ستظل إشكالية رفع العقوبات مطروحة، خاصة أن دولا كبيرة مثل ألمانيا رافضة فكرة تخفيف العقوبات وستدافع عن مصالحها، كما ستظل الحرب التجارية بين أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي قائمة وسيكون في قلبها روسيا، خاصة مع تعقد وتشابك المصالح الروسية الأوروبية وكذلك ملف نوع التسلح، خاصة أن الرئيس بوتين ليس في صالحه -رغم ما هو شائع– التوجه نحو تفكيك حلف الأطلنطي، ومن ثم فإن الرهانات الأمريكية ستطرح في سياق الإبقاء على الحلف ولكن في نطاق محدد وضيق وغير كامل، كما ستظل الرهانات الروسية قائمة بعد قمة هلسنكي في أن الرئيس الأمريكي ترامب ليس له مطلق الصلاحيات والمهام في حال تبني أية سياسات جديدة توافقية، وليست صدامية مع الجانب الروسي في ظل صلاحيات الكونجرس المقابلة وتحفظات أجهزة صنع القرار بما فيها الاستخبارات المركزية، والتي ستقف في مواجهة أي مخطط يمس المصالح الأمريكية.
ما بعد قمة هلسنكي لن يقتصر على الجانبين الروسي والأمريكي فقط بل سيمتد إلى دول وأقاليم أخرى سيكون تأثيرها ممتدا، وفي ظل معادلة جديدة من المصالح التكتيكية والاستراتيجية للجانبين بالأساس، وبدرجة أو بأخرى للقوى التابعة أو المتحالفة، ومن ثم ستظل كل السيناريوهات قائمة في التعامل الأمريكي والروسي مع الأزمات القائمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة