ألف باء في العلاقات بين دولتين تجمعهما الجغرافيا وتفرّقهما الأيديولوجيا، كما في نموذج الولايات المتحدة وجمهورية فنزويلا البوليفارية، تكتب لنا صراعًا مركّبًا بين الرأسمالية من جهة، وبين الفئات والطبقات الساعية لقدر أكبر نحو العدالة الاجتماعية من جهة أخرى.
ويزداد هذا الصراع حدّة بفعل عاملين رئيسيين، القرب الجغرافي، ومكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى تمتلك قدرات ضخمة من النفوذ السياسي والقوة الاقتصادية والعسكرية والمعرفية، وسلوكًا إمبراطوريًا ما يزال يتربع على هرم بنية النظام الدولي وأطر العولمة.
في المقابل، تقف فنزويلا بما تملكه من ثروات طبيعية هائلة، وعلى رأسها النفط الذي يمنحها المرتبة الأولى عالميًا في الاحتياط المؤكد، إضافة إلى مساحات زراعية واسعة وموارد معدنية وحيوانية وبحرية متنوّعة، إلى جانب كونها دولة نموذجية بقدراتها حيث تبلغ مساحة البلاد 961,445 كيلومترًا مربعًا، فيما يناهز عدد سكانها 28 مليون نسمة، ما يجعلها دولة غنية بالموارد البشرية والطبيعية والزراعية التي تؤهلها للنهوض الاقتصادي. ورغم وفرة الموارد، تحمل كاراكاس إرثًا ثقيلًا من علاقات غير متكافئة مع الرأسمالية الدولية، وتعاني معدلات فقر مرتفعة، وتعيش في قلب حراك اجتماعي واقتصادي وعسكري وإنساني يعبر عن صراع مستمر حول شكل النظام السياسي والاقتصادي الذي يجب أن تكون عليه الدولة.
كانت الشركات النفطية الأمريكية الشريك التجاري الأبرز لفنزويلا، والأكثر تضررًا من السياسات النفطية التي انتهجها الزعيم الراحل هوغو تشافيز، والتي قامت على هيمنة الدولة المطلقة على القطاع النفطي. ومن هذا المنطلق، سعت الولايات المتحدة، في إطار محاولتها تقليص أهمية نفط الشرق الأوسط، أو جعل النفط مورد أكثر أمنًا، إلى إيجاد بديل لنظامَي تشافيز الراحل ونيكولاس مادورو الحالي، عبر الدفع نحو حكومة أكثر توافقًا مع مصالحها أو بإعادة ترسيخ منظومة اقتصادية رأسمالية داخل كاراكاس. وقد ازداد هذا الصراع تعقيدًا عندما فرضت واشنطن عقوبات واسعة على شركة النفط الوطنية والموارد الطبيعية الفنزويلية (PDVSA)، متهمة الحكومة بالفساد، فيما ترى كاراكاس أن تلك العقوبات ليست سوى محاولة لخنق اقتصادها والتدخل في قراراتها السيادية.
وتتوسع دائرة المصالح النفطية الأمريكية في محيط فنزويلا لتشمل جارتها جمهورية غويانا (Guyana)، التي تشهد ثروة نفطية متنامية، وكذلك جمهورية سورينام المجاورة لغويانا التي تزخر باحتياطات نفطية مرشحة للزيادة مستقبلاً. وهكذا يتخذ الصراع بُعدًا نفطيًا يختلط بالأيديولوجيا والأمن والشرعية السياسية. فجوهر الخلاف بين واشنطن وكاراكاس، الممتد من عهد تشافيز حتى مادورو، تحوّل من اختلاف أيديولوجي إلى صراع على السلطة والموارد والحدود. فواشنطن تعتبر النظام الفنزويلي غير ديمقراطي، ولذلك لم تعترف بشرعية مادورو وساندت تعيين خوان غوايدو رئيسًا مؤقتًا، بينما تعدّ كاراكاس ذلك تدخلاً سافرًا في سيادتها ومحاولة لفرض حكومة موالية للولايات المتحدة.
وفي السياسة الواقعية، تسعى الدول إلى تعزيز القوة والحضور الاقتصادي وحماية الأيديولوجيا وتأمين المحيط الأمني، وخاصة تجاه الجوار الجغرافي. وهذا ما يفسر طبيعة العلاقة الطويلة والمعقدة بين واشنطن وكاراكاس، ففنزويلا عاشت خلال عقود الحرب الباردة على وقع التدخلات الخارجية مثل غيرها من دول أمريكا اللاتينية، لتصبح في نهاية المطاف جزءًا من شبكة المصالح الأمريكية الواسعة. فواشنطن لطالما اعتبرت المنطقة الممتدة من المكسيك إلى أقصى جنوب القارة الأمريكية "فناءً خلفيًا" لها، لا ينبغي لقوة منافسة أن تقترب منه، فمارست نفوذها عبر الشركات الرأسمالية الزراعية والنفطية والصناعية. ومع ذلك، فقد أفرزت تجارب تلك الدول ومواردها وقدراتها، إضافة إلى تراكم خبراتها التاريخية، حاجةً ملحّة لظهور تيارات يسارية وطنية وجدت تعبيرها الأكثر حضورًا في عهد تشافيز.
وحروف كثيرة في المنظومة الرأسمالية والاشتراكية، ولكن أقوى ما تستطيع تلك الحروف البوح به هو أن الاشتراكية هي التفرد بالسلطة والقوة والسياسة بحجة البحث عن العدالة ومخاطبة الفقراء والمستضعفين والراغبين في تغير مالكي المال والحياة والقوة. أما الرأسمالية، فتعمل على استغلال العمال والمستهلكين والأسواق والاستثمارات، وهذا على مستويات متفاوتة من الوحشية، ولكنها تحقق تطورًا مستمرًا لأنها تبحث عن النجاح، وهذا له أثره في العلاقة بين كاراكاس وواشنطن. ولعل العدالة تكمن في الجمع بين النموذجين.
فتشافيز الذي انتخب عام 1998 ثم عام 2000، يعتبره البعض أول رئيس فنزويلي يعمل لصالح الفقراء الذين كان يشكلون أكثر من 60% من الشعب، ولكن هذا لم يمنع من أن يتعرض لمحاولة انقلاب في 2002، قادها بعض الضباط في الجيش ونصبوا حكومة لم تعمر أكثر من 48 ساعة في الحكم، وسقطت بعد مظاهرات شعبية مؤيدة لتشافيز، وبعدها تدخل الجيش وأعاده إلى الحكم. وقد قام تشافيز بإصلاح شركة البترول الفنزويلية وأزاح بعض مدرائها، فحاربته وسائل الإعلام باسم ضحايا الشركة، وكثرت الإضرابات والمظاهرات وفشلت كل فصائل المعارضة التي حصلت على مباركة من رجال الدين المسيحي وأموال رجال الأعمال مع تواطؤ كبار الضباط، ليبقى تشافيز في السلطة رغم قوة خصومه.
وثمة حقيقة من الراحل تشافيز والرئيس الحالي مادورو، وهي أن كاراكاس اعتمدت على عوائد النفط بشكل كبير، ولم تجيد الاستفادة من ارتفاع الأسعار وإيجاد دعائم أخرى تساند أو تنوع الاقتصاد، وهذا اتضح في سنوات انخفاض أسعار النفط.
في منظومة الصراع بين كاراكاس وواشنطن، نجد ملفات عديدة مثل غسيل الأموال والمخدرات، حيث تتهم الولايات المتحدة مسؤولين كبارًا في الحكومة والجيش الفنزويلي بتكوين ما يسمى "كارتل الشمس"، الذي يسهل مرور الكوكايين من كولومبيا عبر الأراضي الفنزويلية، بينما تنفي كاراكاس هذه الاتهامات وتقول إن كولومبيا هي المنتج الأكبر للمخدرات. وبالنسبة لواشنطن، فإن هذا الملف يعزز روايتها بأن النظام يشكل تهديدًا أمنياً عابراً للحدود.
وهنا تأتي الفاصلة التاريخية الأبرز، فرغم إرث تشافيز الشعبي، فإن النظام الحالي في عهد مادورو لا يمتلك القدرة على النهوض بالبلاد ولا إدارة أزماتها المتراكمة، فالبنية الإنتاجية ضعيفة، مع ضعف الاقتصاد الذي يعاني من العقوبات، حيث ازدادت تبعية الدولة لشبكات الالتفاف على العقوبات وتهريب الذهب والنفط وغسيل الأموال. وبينما تؤكد حكومة كاراكاس أن العقوبات الأمريكية سبب الانهيار وحالة الضعف، يرى خصومها أن غياب الكفاءة وتداخل الفساد مع السلطة والعزلة الدولية جعلت البلاد عاجزة حتى عن الحفاظ على مكتسباتها السابقة.
هناك العديد من الحروف التي تتحدث عن العلاقة الحالية بين واشنطن وكاراكاس اليسارية، وتزداد تعقيدًا في انخراط كاراكاس في محور إيران–روسيا–كوبا والصراع الأمريكي في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. ويبقى السؤال عالقًا: هل يكتب موروث تشافيز الذي يحمله مادورو حروف العدالة للشعب الفنزويلي؟ فرغم الاعتماد على الشعب والقوات المسلحة وتأميم الاقتصاد وتوجيه الموارد للفقراء في التعليم والصحة والمسكن، ما زال اقتصاد فنزويلا ضعيفًا ودائرة الفقر والهجرة تتسع.
ويهمس البعض بلسان نظرية المؤامرة، عبر حروف كُتبت بحبر يمتزج فيه الغموض بالمصالح، بأن واشنطن قد تسمح لموسكو بالحصول على أجزاء من الأراضي الأوكرانية وفرض شروط تمنع انضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي، تحقيقًا لمعادلة تحفظ الأمن والمصالح الروسية. وفي المقابل، ستعمل واشنطن – وفق هذا الهمس – على إسقاط نظام مادورو المتهالك اقتصاديًا والعاجز عن تقديم مشروع نهضوي لبلاد غنية بالموارد، بما يتيح لها إعادة الإمساك بملف الطاقة والتحكم في "الفناء الخلفي" لجغرافيتها القريبة. ويذهب الهمس ذاته إلى أبعد من ذلك، إذ يرى أن نجاح مثل هذا التفاهم قد يشجع واشنطن على بسط نفوذها على جزيرة غرينلاند، المتمتعة بحكم ذاتي تحت الدنمارك، التي تعتبر غنية بالموارد الطبيعية، ناهيك عن موقعها، وطامحة في بعض أصواتها لأن تصبح ولاية أمريكية، بما يوفر لواشنطن مبررات إضافية للهيمنة والأمن والقوة. وعندها ستدرك أوروبا الغربية كم كانت غائبة في إطار الليبرالية والديمقراطية عن السلوك الطبيعي للدول العظمى والكبرى عندما تحافظ على مكانتها وتسعى لتحقيق المزيد من القوة والهيمنة. حقًا، عالم يسوده القانون والنظام يحتاج إلى قوة غابية متمثله بالقوى العظمى تفرض احترام القانون الدولي، وهكذا هي الواقعية يا سادة.
هنا نختم أبجدية الصراع، فليس من قبل الحكم عندما نقول ما زال العالم يبحث عن العدالة الشاملة لأوطانه متخذًا منظومة تلو المنظومة من السياسة والاقتصاد والاجتماع والنظريات بيد ثائرة وقابضة لتعطي، وربما لتأخذ وتتسلط، ويد مستثمرة ومعمرة وآخذة ورابحة ومشغلة، وربما سارقة لحياة الفقراء، ويد بين اليَدَين، وأيدٍ أخرى تصفِّق لهذه اليد أو تلك. وإن كان ما تميزت به فنزويلا من نهج يساري وتأميم، ففي ذلك تقول إن حروف اقتصادنا كانت من دون نقاط، لأن الرأسمالية سرقت وتسرق نقاط حروفنا دائمًا ونحن نعيد الكتابة بحروف صحيحة وعادلة، وها هي الولايات المتحدة تراجع وتنظر نحو العدالة والمحافظة والشعبوية والحد من الحرية الفردية المتصادمة مع الطبيعة والمجتمع، ومدى استمرار نجاح الأمة الأمريكية بتعدد أعراقها، حيث مازال النظام الألماني الرأسمالي ذو التوجه الاجتماعي أكثر عدالة منها، فربما سيأتي يوم تقول فيه واشنطن إن بعض نقاط حروف عدالتها وتماسك أمتها والحلم الأمريكي – وهو منظومة قيم تعِد بالترقّي الاجتماعي والاقتصادي عبر الحرية والفرص والعمل الجاد – كلها سرقتها الرأسمالية الجائرة والحفاظ على الهيمنة العالمية!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة