الفقه علم من علوم المسلمين، أنتجه العقل البشري استجابة لزمانه ومكانه، يهدف إلى تنزيل قيم الدين الإسلامي إلى الواقع
الفقه علم من علوم المسلمين، أنتجه العقل البشري استجابة لزمانه ومكانه، يهدف إلى تنزيل قيم الدين الإسلامي إلى الواقع لتضبط سلوك الأفراد في موضوعات محددة، أو يرتقي بسلوكيات الأفراد لتصل إلى مستوى تحقيق مقاصد الشرع في حياة البشر وفي آخرتهم.
ومع توسع نشاطات الأفراد وتعقّد حياتهم، وتعدد فعالياتهم وتفاعلاتهم ومعاملاتهم توسّع الفقه وتشعب وتمدد، وظهرت فيه الأنواع والأقسام: كفقه العبادات وفقه المعاملات، الذي كان ضرورة علمية للتصنيف والتخصص، ولكنه أدى إلى خلل في السلوك؛ جعل المسلم يرفع فقه العبادات درجات عن فقه المعاملات، باعتبار الأول يتعلق بالخالق سبحانه وتعالى، والثاني يتعلق بالبشر من حيث الموضوع، والحقيقة أن فقه العبادات هو مقدمة لفقه المعاملات، فمن لا تستقيم معاملاته مع الناس، وتستقيم معها أمانته وأخلاقه، لا فائدة من عباداته ولا قيمة لها.
كذلك توسع الفقه من حيث الموضوعات مع توسع الحياة وظهور الصناعات والتجارات والابتكارات والمؤسسات، ومع توسعه توسع دور الفقيه، وأصبح أكثر أهمية، وتحول الفقه إلى صنعة تفيد صاحبها، وتدر عليه العوائد الكثيرة، ومع توسع هذا الدور صار الفقيه حريصاً أشد ما يكون الحرص على تمديد الفقه وتوسيع مجاله، لأن ذلك سيحقق له السيطرة على حياة الناس، ويزيد من حاجة الناس إليه، وتعاملهم معه، بما يحقق المكانة والقيادة والوضع الاجتماعي، وبما يدر العوائد الاقتصادية والمنافع العينية كذلك.
وصل الفقه مرحلة لا جديد فيها، بل صارت الوقائع في انكماش، وصار الموجود من الفقه أكثر من حاجة الناس، لأن بعض القضايا والمعاملات لم تعد قائمة... لذلك صار الفقيه في موقع حرج وخطير... فماذا يفعل الفقيه؟
وقد جذب هذا الحال العديد من طلاب علوم الدين إلى مجال الفقه أكثر من أي تخصص آخر، بما فيها تفسير القرآن، أو علوم الحديث، لأن تلك العلوم نظرية، لا يحتاجها عوام الناس وخواصهم لتدبير أمورهم، والإجابة عن تساؤلاتهم، وحل مشكلاتهم الأسرية والمالية والأخلاقية، ومع هذا التوسع والتعدد والتزايد صار الفقه مهيمناً على حياة المجتمع ... ولم يكن هناك ضير من هذه الحالة مادام أن المجتمع حي، ومزدهر وفي تقدم مضطرد، وفي نماء مستمر، لأن الفقه كان يجيب عن أسئلة حقيقية تظهر مع حركة المجتمع، ومع تجدد قضاياه، وتنوع نشاطاته، فقد كان المجتمع وما ينتجه من حضارة في المقدمة، والفقه تابعاً له تاليا لحركته، بحيث تظهر الحوادث والمشكلات، أو ما يسميه علماء المغرب النوازل، ثم بعدها يأتي دور الفقه، يدرس الواقع دراسة دقيقة، ثم بعد ذلك يعطي فيه رأياً فقهياً، سواء أكان حكماً أو فتوى.
وحيث إن الواقع متغير متحول، والمجتمعات في تقدم وتراجع، ونمو وركود، وازدهار وانحسار، وحيث إن الواقع الاجتماعي هو المتحكم في حركة الفقه، وهو الذي قاد إلى توسعه وتمدده وتشعبه وتضخم قضاياه... لذلك حين تراجع المجتمع، ولم يعد قادراً على توليد قضايا جديدة تنشأ من تفاعلات وفعاليات جديدة، ولم تعد هناك نوازل أو حوادث جديدة تلهب عقل الفقيه، وتقدح زناد فكره، وهو الذي تعود أن يواجه بالجديد، ويوجد له الحكم الشرعي أو الفتوى... فقد وصل الفقه مرحلة لا جديد فيها، بل صارت الوقائع في انكماش، وصار الموجود من الفقه أكثر من حاجة الناس، لان بعض القضايا والمعاملات لم تعد قائمة... لذلك صار الفقيه في موقع حرج وخطير... فماذا يفعل الفقيه.
هنا رفض الفقه أن يستجيب للواقع المتراجع المنحسر الجامد الواقف عن حركة التاريخ، وفي نفس الوقت لم تكن هناك قضايا جديدة يدلي فيها بدلوه، ويقدم فيها أحكامه وفتاواه... وهنا تفتق ذهن الفقيه عن حيله، والفقه هو أصل الحيل، إلى الحد أن هناك فرعا من الفقه يسمونه «الحيل الفقهية»...وكانت الحيلة الدخول في الفقه الافتراضي، وذلك من خلال افتراض حوادث خيالية غير موجودة، ثم إخضاعها لمنهجية الفقه الصارمة، وتوليد أحكام لها، أو تقديم فتاوى فيها، وتسابق الفقهاء في الفقه الافتراضى بصورة تصل إلى حد الخيال العلمي.
وقد تمدد الفقه الافتراضي إلى حد الوصول إلى مستويات الألغاز والأحاجي، وغرائب الأشياء، ولكن أهل عصره كانوا يعرفون أنه فقه افتراضي، يقوم على حرف «لو» وهوحرف امتناع لامتناع، يمتنع ما بعد «لو» لامتناع حدوث ما قبلها ... لكن هذا الفقه تم تدوينه في الكتب، وظل محفوظاً واختلط بالتراث الفقهي الأصيل،…وحين تراجع العلم الديني، وصار يستقطب من التلاميذ والطلاب أضعفهم، خصوصاً فى منتصف السبعينيات من القرن الماضي حين قررت الدولة المصرية قبول كل من استنفد مرات الرسوب في التعليم العام خصوصاً فى الإبتدائية، أى من رسب لأكثر من مرتين ... هؤلاء يدخلون التعليم الأزهري في المرحلة الإعدادية، ولو نظرنا إلى حركة التاريخ وتطور الزمن، سنجد أن من هؤلاء الذين استنفدوا مرات الرسوب في ابتدائية 1975، هم الآن من الذين يفتون، ويوعظون، وتخصص لهم برامج تليفزيونية، هؤلاء هم الذين أطلقوا، ومازالوا، وسيستمرون في إطلاق فتاوى شاذة تعافها النفس البشرية السوية، ويستحيى الإنسان أن يسمعها أطفاله، لأنها تجرح شعورهم، وتخدش حياءهم، ومنهم من خصص حلقة فى فضائية كبرى يشاهدها العالم لحكم شوى السمك أو قليه فى الزيت وهو حي، موضوع مهم لشعب لا يجد السمك أصلا حياً ولا ميتاً…هنا نستطيع أن نقول إن أيامنا هذه تشهد عودة الفقه الافتراضي في زمان غير زمانه، ومكان لا علاقة له بمكانه.
نقلا عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة