أخيرا نجحت فى التوفيق ما بين ارتباطات كثيرة، وتلبية الدعوة الكريمة من الحرس الوطنى السعودى للمشاركة فى أعمال «مهرجان الجنادرية» فى دورته الحادية والثلاثين
أخيرا نجحت فى التوفيق ما بين ارتباطات كثيرة، وتلبية الدعوة الكريمة من الحرس الوطنى السعودى للمشاركة فى أعمال «مهرجان الجنادرية» فى دورته الحادية والثلاثين، والتى جرت خلال الأسبوع الماضى. ولمَن لا يعرف فإن المهرجان معنى بالتراث والثقافة لدى الدول العربية والإسلامية، ولكن مع أهمية ذلك، فإن جلسات مهمة جرى تخصيصها لموضوعات سياسية، مثل السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط، ومهددات النظام الإقليمى العربى، وصدق أو لا تصدق: «السعودية ومصر.. تاريخ العلاقات الراسخة والمسؤوليات القومية والإقليمية». كل ذلك مضاف إلى موضوعات «دنيوية» أخرى لها علاقة بالعالم الذى نعيش فيه، بما فيه من إشكاليات وتعقيدات، يبدو أحيانا أنه لا أحد يستطيع حلها. ولحسن الحظ أن «التراث» و«الثقافة» فيهما من الرحابة والاتساع والبعد عن نوايا ومصالح البشر ما يكفى لكى يكونا قريبين من «نوستالجيا» بديعة وغامضة فى آن واحد. وبصراحة كان فيها من المشترك ما يخلق تواصلا، ولُحمة بين ممثلين جاءوا من بلاد شتى، حاملين معهم موسيقاهم وتقاليدهم ورقصاتهم، التى تدور فى جوانب كثيرة منها حول تجليات روحية، أبدعها السابقون وينتظرها اللاحقون، لعلها تشعل نيرانا خمدت، أو يظنونها كذلك.
ويجب أن أعترف فى الطريق إلى الرياض بأننى شعرت بقدر غير قليل من الوجل والرهبة، ليس فقط لأننى لا أعرف المدينة، وإنما لأن التواجد هناك فى فترة، العلاقات فيها بين مصر والسعودية ليست على أحسن حال، لا يكون من الأمور المستحبة، خاصة لو أن أمورا سياسية لابد لها أن تكون على قائمة الأعمال. كانت الغيوم قد كثرت فى سماء العلاقة خلال الشهور الماضية، وبدت الأوضاع مناقضة تماما لما كان عليه الحال فى إبريل الماضى، عندما زار الملك سلمان بن عبدالعزيز القاهرة. كانت لدىَّ شكوكى بأن التوتر بين القاهرة والرياض لم يكن مصدره فقط خلافات فى الرؤى، وإنما لأن عناصر داخلية لدى البلدين لم تكن- لأسباب أيديولوجية- تقبل بعلاقات استراتيجية بين البلدين. كانت الموضوعات التى جرى الاختلاف عليها كثيرة، وشملت دولا مثل سوريا واليمن، كما احتوت على جزيرتى تيران وصنافير، ولكن ذلك كان هو الظاهر، أما بعد الولوج إلى الأعماق فإن المختلفين كانت لديهم خيارات أخرى لبلادهم.
لم تكن هذه الحالة بأفضل الأجواء لزيارة الرياض، ولكن هذه ذاتها هى التى جعلت الزيارة حتمية، لأن مَن خبِر خبرة العلاقات العربية- العربية لا يكتفى بالتصريحات ولا مقالات الصحف، وفى عصرنا فإن «فيسبوك» توجد فيه أحيانا جرائم كاملة الأركان، لا يمكن تفاديها إلا بالذهاب إلى قلب المشكلة. وصلْتُ العاصمة السعودية فى النهاية، محاولا استرجاع شكل المدينة، فى آخر زيارة لها منذ سنوات ست، ولكن الحقيقة لم يكن باقيا منها الكثير، كانت المدينة قد تغيرت كثيرا. ولكن المفاجأة كانت أن مصر كانت الضيف الرسمى فى المهرجان، وفى مثل هذه المناسبات فإن ما يُعرف عن «القوة الناعمة» المصرية يظهر بوضوح، وعندما تقود المجموعة شخصية مثقفة وغنية بالفكر، مثل الأستاذ حلمى النمنم، فإن التواجد المصرى يصير أكبر بكثير من العدد الكبير من الفرق والفنانين والمثقفين المشاركين. قيل لنا إن اختيار مصر ضيف شرف رسميا لم يكن اختيارا من الأمير متعب، ابن الملك عبدالله، وكلاهما معروف بالهوى المصرى، وإنما جرى من خلال الملك سلمان شخصيا. وسواء كان ذلك حقيقيا أو غير حقيقى، فإن ذلك كان إشارة إلى ما سوف يأتى.
ففى الوقت الذى كانت فيه الجماعة المصرية مشتبكة مع بعضها، فيما يخص «تيران وصنافير»، ولكن بهدوء أكثر مما كنا نعرفه، فى القاهرة، فإن الجماعة السعودية المشارِكة لم يكن لديها هذا النقاش. كان التركيز السعودى الشديد هو العلاقة الاستراتيجية، وطبيعة التحديات الجديدة التى تواجهها المنطقة، ولم يكن ذلك نوعا من مواجهة ما استجد، وإنما تبارى الجميع فى إرجاع العلاقة الاستراتيجية إلى قرون مضت وفى مجالات عدة. وعندما طرحت مقترحات حول تأجيل قضية الجزيرتين، أو البدء بما هو متفق عليه من مشروعات، من الجسر إلى تعمير سيناء، لم نسمع معارضة واحدة. وإلى حد كبير، كان الزملاء من السعودية لديهم تفهم غير قليل للتركيبة المعقدة للنظام السياسى المصرى، وما يحتويه من أدوار متعددة للسلطات. العتاب جرى فقط على تلك المقالات والتغريدات، التى أظن أن التجاوز فيها كان مرفوضا من المصريين أيضا. وعندما بدا أن مباراة الفريق القومى المصرى مع الكاميرون فى نهائى كأس الأمم الأفريقية يمكن أن تكون عقبة أمام عشاء عمل مع شخصية سعودية مثقفة بارزة، فإن العجب كان كبيرا، لأن كوكبة من المثقفين السعوديين لم يكونوا أقل حماسا للفريق المصرى. كان الألم مشتركا فى النتيجة، ولكنه لم يمنع فتح نقاش طويل وصريح، عرفنا منه أن العلاقات ليست ملتهبة بالدرجة التى يجرى تصورها فى القاهرة، كما أنه على العكس كان هناك قلق بالغ من أن تفلت الأمور، ليس بسبب قضايا موضوعية، وإنما لأن جماعة عابرة للبحر الأحمر على مراكب «فيسبوكية» هى التى تحاول تقويض العلاقات بين دولتين أصبحتا تمثلان البقية الباقية من قوة «الأمة العربية». كانت تعبيرات مثل «الأمة» و«الوطن العربى» تذهب وتجىء، ليس على الطريقة التى ذاعت خلال الستينيات من القرن الماضى، وإنما كان هناك نوع من «العروبة الجديدة»، التى تتجاوز تلك التى سبقت، وتحاول اللحاق بآفاق جديدة لمصالح مشتركة.
نقلا عن صحيفة المصري اليوم
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة