في ذكرى وحيد حامد.. قاتل الإخوان بالمشهد وكشف وجوها بلا ظل

حين يُذكر الفن كأداة مقاومة، لا بد أن يُستدعى اسم وحيد حامد، لا كمجرد كاتب سيناريو بارع، بل كضمير ثقافي ظل يقاوم الانغلاق والتشدد لعقود، بسيناريو يكتبه، أو مشهد يُبنيه، أو شخصية يفككها حتى تنطق بما لا يقال.
في يوليو/تموز عام 1944، لم يُولد مجرد طفل، بل خرج من رحم اللحظة وعدٌ بقلمٍ لن ينكسر، وصوتٌ لا يعرف التردد. كان نداءً مبكرًا إلى ساحةٍ سيشتعل فيها الحرف، وستُقاد فيها المعارك بالكلمة والصورة. ستة وسبعون عامًا، لم يهدأ له نبض، ولم يعرف القعود، ولم يسلّم رايته، حتى غاب الجسد في الثاني من كانون الثاني/يناير عام 2021، وبقي الاسم حيًّا في ذاكرة وطنٍ لا ينسى من كتب له حكاياته، وفضح من أرادوا طمسه.
من سبعينيات القرن الماضي وحتى العقد الثاني من الألفية الثالثة، ظلّ وحيد حامد شوكة في حنجرة الجماعات التي حاولت استلاب الدولة باسم الدين، وسوطًا فنّيًا تأبى أن تطفئه الريح. تلك الجماعات أرادت للفن أن يُطأطئ رأسه، لكنه أبى. أرادت له أن يُجامل، فاختار الصدق. حين اختبأ الجميع، خرج هو إلى الضوء.
في التسعينيات، حين كان العنف يمشي على قدمين في الشوارع، يضع عبواته تحت السيارات، ويغتال الحلم برصاصٍ في الرأس، أمسك وحيد حامد بسلاحه الوحيد: السيناريو. كتب، أنتج، أشرف، حاور، وفكّك تلك العقول التي آمنت بأن الفتوى تبيح القتل، وأن البندقية أقرب إلى الله من الإنسان. تسلّل إلى عمق الفكرة، فاضحًا آلية التفكير، خالعًا الأقنعة، كاشفًا أنّ من يقف خلف الستار لم يكن يومًا ملاكًا.
"الإرهاب والكباب".. ضحك يفتّت الرصاصة
في "الإرهاب والكباب"، مع النجم عادل إمام والفنانة يسرا، وضع المجتمع أمام مرآة لم تهادن. كانت كوميديا سوداء تسخر من الروتين، لكنها تُحذّر من نتائجه. أبرز حامد، ببراعة، كيف يُمكن للظلم الإداري والتهميش أن يُنتج غلًا، وأن يتحوّل الغضب الشعبي إلى بؤرة يُفرخ فيها التطرف. لم يكن الحديث عن الإرهاب، بل عن الأرض التي تُنبت شوكه.
"طيور الظلام".. ذئاب بثلاثة وجوه
في "طيور الظلام"، قدّم ثلاثية مثقلة بالأسئلة: فتحي نوفل، علي الزناتي، ومحسن. بين من باع روحه للسلطة، ومن تحالف مع جماعات الظلام، ومن آثر الحياد، وضعنا حامد في مواجهة مع هشاشة الضمير. لعب رياض الخولي دور "الزناتي"، ذاك المحامي الذي يذوب في الطمع حتى يتحوّل إلى ترسٍ في آلة تسعى للهيمنة. الفيلم كان بطولة عادل إمام ويسرا، وترك رسالته دون أن يصرخ.
"غريب في بيتي".. الملعب ساحة تطرف
وحين ظنّ البعض أن الإرهاب لا يخرج من المساجد والسياسة، ذهب حامد إلى الملعب، فكتب "غريب في بيتي" مع نور الشريف وسعاد حسني. عنف يرتدي قميص الفريق، وهوس يتحوّل إلى غريزة، ويأس يختبئ خلف هتاف. طرح السؤال: ما الفرق بين متعصب رياضي وآخر ديني؟ وأجاب دون أن يشرح.
"عمارة يعقوبيان".. من النور إلى الظلمة
في "عمارة يعقوبيان"، قدّم وجعًا صامتًا، وأعاد تعريف التطرف عبر شخصية "طه الشاذلي"، الشاب الطيب المهذّب، الذي صار وقودًا في معسكرات الإرهاب. أدّاه محمد عادل إمام، وبيّن كيف يُمحى العقل باسم الطهر، ويُستبدل الفهم بفتوى، ويُقدّس القتل إذا صار باسم العقيدة.
"دم الغزال".. الحب يُذبح بيد التطرف
في "دم الغزال"، رسم ملامح "رضا"، الذي جسده محمود عبد المغني. شاب قتل حبيبته، منى زكي، لا لشيء سوى لأنها قالت "لا". تحوّل الجرح إلى مسدس، والغضب إلى يقين، والرغبة إلى موت. العمل لم يكن عن القتل، بل عن فكرٍ يرى الرفض خيانة.
"الجماعة".. المخطط بالحبر والدراما
في "الجماعة" بجزئيه، لم يكتب سيرة حسن البنا كحكاية، بل كطبقات من المعنى. من الطفولة حتى صدامه مع القوى السياسية، حفر وحيد حامد في ذاكرة التنظيم، وكشف كيف تغلغل في مفاصل الدولة، وكيف صنع أتباعًا لا يشكون. صار المسلسل مرجعًا بصريًا، أزعجهم حتى بعد رحيله، فردّوا عليه بشراسة، وكأنهم يعترفون أن السهم أصاب.
من "المنسي" إلى "سوق المتعة".. مشاوير من وجع الناس
في "المنسي"، كتب عن العامل يوسف الذي يجد نفسه في كشك قطار يحتمي به فتاة ملاحقة من رجل أعمال جشع. مع عادل إمام، كشف كيف يُطحن المواطن بين فقره وطبقية لا ترحم. أما في "معالي الوزير"، فقد استدعى قصة رأفت رستم، الوزير بالصدفة، الذي يُلاحقه الكابوس، وسط أداء فريد لأحمد زكي.
في "النوم في العسل"، تابع العقيد مجدي قضية غامضة: تفشي العجز الجنسي في المدينة. هل هي مؤامرة؟ مرض نفسي؟ أم مرآة لمدينة تموت من الداخل؟ مثّلها عادل إمام، وشاركت شيرين سيف النصر. أما "سوق المتعة"، فكان عن رجل خرج من السجن بعد عشرين عامًا من الظلم، ليجد المال ولا يجد ذاته. كلف العمل مليونًا ومئة ألف جنيه، وكان حامد يريد إعادة تصويره، لا لخلل، بل لإيمانه بأن الحكاية لم تكتمل بعد.
لم يكن ينتظر وسامًا
لم يكن يتعطّش إلى الجوائز، رغم نيله جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 2008، وعدد من التكريمات العربية والدولية. كان يكتفي بنظرة من عين عادية، تتذكر جملة كتبها أو مشهدًا خلّد وجعًا.
ولم يكن بخيلًا بوقته على الكُتّاب الشباب. جلس إليهم، راجع نصوصهم، ناقشهم، علّمهم كيف يكتبون دون خوف. لم يكن أستاذًا ينظر من علٍ، بل رفيقًا يُمهّد الطريق لمن يأتي بعده.
لم ينتهِ..
أنهى كتابة الجزء الثالث من "الجماعة"، وكان يتهيأ للجزء الرابع. لو بقي حيًّا، لربما عرّى فصولًا لم تُكتب. لكنه رحل، وترك أوراقه تتكلم. تلك الصفحات ما زالت تقاوم. الكلمة التي كتبها، ولو بحبر جاف، لم تجف. جسده غاب، لكن كل سطر نطق به، ما زال يدوّي في وجه العتمة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjUyIA== جزيرة ام اند امز