تصريح وزيرة الدفاع الألمانية، كريستينه لامبرشت، بشأن عدم استعداد برلين تزويد أوكرانيا بالأسلحة لمواجهة الروس، هو التعبير الأصدق عن موقف الاتحاد الأوروبي من التوتر القائم بين موسكو وكييف.
لا يريد التكتل -كمؤسسة أو كدول منفردة- الخوض في حرب مباشرة مع روسيا مهما كان السبب، وأياً كانت الضمانات التي قد تقدمها الولايات المتحدة وبريطانيا في الدفاع عن الأوروبيين.
التصريح الأكثر شفافية نطق به قائد سلاح البحرية الألمانية، كاي إخيم شوينباخ، الذي قال عبر فيديو نشر على "يوتيوب"، إن شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا، لن تعود إلى أوكرانيا بأي حال من الأحوال.
وفحوى هذا التصريح باختصار ووضوح أن بلاده لن تخوض حربا ضد روسيا، وعلى الغرب أن يفكر في بدائل واقعية عن المواجهة العسكرية مع موسكو لرسم الخارطة السياسية في القارة الأوروبية.
الأدميرال الألماني، الذي اعتذر عن صراحته بعد سيل من الانتقادات، يرى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "يستحق الاحترام".
وهو في هذا يبوح بلسان حال كثيرين في القارة العجوز وحول العالم ككل.. فهو -بوتين- القائد الذي استطاع أن يعيد لبلاده هيبتها.. هو "نهض باقتصادها وقوتها العسكرية وعلاقاتها الخارجية، فعاد بها إلى خارطة القوى الكبرى، وجعلها رقما لا يمكن تجاهله أو الاستهتار بمصالحه".
يقول محلل سياسي روسي على إحدى الفضائيات إن أزمة أوكرانيا تتلخص في أن الغرب "لا يتعامل مع روسيا كقوة عظمى لها أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية".
وبغض النظر عن ضبابية تعريف ذلك الأمن وتلك المصالح، لا بد من الاعتراف بأن الواقع يقول إن كل قوة عظمى حول العالم تحمي نفوذها خارج حدودها، ولا تسمح لأحد بمسّ مصالحها في الجغرافيا، التي تعتبرها مناطق هيمنتها.
الولايات المتحدة تفعل ذلك، وبريطانيا وفرنسا تفعلان ذلك. وجميعها دول دائمة العضوية في مجلس الأمن وتستطيع أن ترفع الفيتو في وجه أي قرار يهدد مصالحها، حتى لو كانت على بُعد مئات الآلاف من الكيلومترات عن حدودها.
قد تختلف الذرائع، التي تسوقها كل دولة، إلا أن النتيجة واحدة، وتتلخص بأن العالم لم يتخلص حتى الآن من نظريات سطوة القوي، ولم يتجاوز بشكل كامل عقلية الاستعمار القديم.
لا يُبرَّر لأي قوة غزو أخرى أقل أيا كانت الأسباب، ولا يُبرَّر التدخل في سياسة دولة جارة.. لكن في المقابل ألا تنطوي خطط حلف شمال الأطلسي في التوسع على حدود روسيا الجنوبية الغربية على "نيّات سيئة"؟.. هل يصدق أحد أنها مجرد "رغبة بريئة من الولايات المتحدة والأوروبيين لمساعدة تلك الدول التي كانت تنتهج الشيوعية قبل ثلاثة عقود"؟
ربما لو قام الغرب بضم كل الدول، التي خرجت من العباءة الروسية قبل نهاية الألفية الثانية لقضي الأمر وبات بحكم الأمر الواقع.. أما وقد فعل "بوتين" ما فعله خلال العقدين الماضيين، فإن المهمة باتت أصعب بكثير.. لا أحد يملك ضمانات بأن ساكن الكرملين لن يخوض حربا من أجل وقف الزحف الغربي إلى حدوده، والأمثلة كثيرة على سرعة وحزم ردود فعله إزاء أي حدث "يهدد" استقرار دول الجوار.. فبضعة أيام من الاحتجاجات الشعبية كانت كفيلة بإرسال "بوتين" قواتٍ عسكرية تحفظ الأمن في كازاخستان.. قبلها بأشهر قليلة قدَّم كل دعم سياسي ولوجستي لرئيس روسيا البيضاء في "خصومته" مع بولندا والاتحاد الأوروبي بسبب اللاجئين.. تواصُله مع حركة "طالبان" في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي من هناك يُقرأ في ذات السياق.. وكذلك يُفهم التدخل السريع من أجل إنهاء معارك إقليم ناغورنو كاراباخ خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي.
رغم هذا يتفادى "بوتين" المواجهة المباشرة مع الغرب بقدر ما يتجنبها الأوروبيون.. والاحتمال الضئيل في غزوه أوكرانيا لن يوضع بحيز التنفيذ إلا إن أمعنت أمريكا وحلفاؤها في "عسكرة كييف وتسليحها".
لن تقع الحرب إلا إنْ أغلقت أبواب التفاهم مع بروكسل وواشنطن أمام بوتين، لكن "خصومه" يروّجون إلى أنه "ماضٍ للقتال أيا كانت نتائج الحوارات، التي تدور بين الروس والأمريكيين والأوروبيين في جينيف وغيرها".
لن يشن "بوتين" حرباً عمياء لا نهاية لها. والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يعلم أن حالة الانقسام، التي تشهدها بلاده ستسهل المهمة على الروس، إضافة إلى يقينه بأن الدول الأوروبية لن تحارب إلى جانبه.. كل هذا يجعله يفضل السلم على الحرب، ومنذ بدء الحوار بين الغرب وموسكو أبدى "زيلينسكي" استعداده لاتخاذ قرارات "صعبة" تتعلق بإنهاء القتال مع الانفصاليين المؤيدين للروس شرق أوكرانيا.
يتجاهل الغرب احتمالات أن يكون لدى "بوتين" خطط أخرى غير الغزو المباشر لأوكرانيا.. كما أن الأمريكيين والبريطانيين يواصلون حشدهم في كييف رغم أن المسؤولين الأوروبيين يقولون إن تقاريرهم لا تجزم بنية الروس إشعال جبهة مع الغرب.
مع هذه المعطيات يقفز إلى الذهن سؤال مشروع: مَن يريد الحرب فعلاً، إنْ كان يتجنبها الروس والأوروبيون والأوكرانيون على حد سواء؟
ربما وحدها الولايات المتحدة هي من ترغب في اندلاع الحرب، وربما لو أن المعركة لن تقع على أرض حلفائها الأوروبيين لأسرعت في إشعالها.
كثيرة هي التحليلات والتقارير، التي توقعت ذلك، وتنبأت بتوجه أمريكا للمواجهة مع الروس والصينيين في مناطق نفوذهم، وذلك مع وصول الرئيس جو بايدن إلى "البيت الأبيض".
لا يمكن تجاهل التصعيد، الذي تمارسه واشنطن مؤخرا في هذا الملف تحديداً، ولكن حتى الآن لا يزال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، هو من يتصدّر المشهد.. وطالما بقي الدبلوماسيون هم من يقودون الحوار، تظل هوامش السلم كبيرة، بشرط ألا تكون قرارات الحرب قد اتخذت مسبقاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة