يأتي القرار الأمريكي برسالة واضحة بتأييد "حفتر"، وأنه النموذج السياسي الليبي الذي يراعي المصالح الوطنية والدولية
لطالما قيست السياسة الخارجية للدول بالعلاقات التي تعتمد على المصالح الاستراتيجية، تبعاً لثقل الدولة ودورها الفاعل على المستوى العالمي، الأمر الذي جعل من العلاقات المستقرة مع الدول العظمى ميزاناً لنجاح السياسة الخارجية وفاعليتها بالنسبة للدول الصغيرة، كما أنها تعطيها انفتاحاً وقدرة على النهوض والاستقرار، أما إذا ساءت العلاقات فيما بينها فإن ذلك ينعكس سلباً على الدول الصغيرة وعلى المستويات كافة، ووفق هذه المعادلة البسيطة وفيما يخص العلاقات الليبية الأمريكية التي ظلت متأرجحة بين أخذ ورد، وعلى مدار عقود من الزمن يمكن أن تنقسم إلى مرحلتين:
يأتي القرار الأمريكي برسالة واضحة بتأييد "حفتر"، وأنه النموذج السياسي الليبي الذي يراعي المصالح الوطنية والدولية، وأن هذا النموذج يمكن التعامل معه وفتح القنوات السياسية والدبلوماسية
الأولى: ما قبل عام 2012: ولا سيما في مرحلة "العقيد معمر القذافي" إذ امتازت العلاقات الليبية الأمريكية بالتشنج والاضطراب؛ إذ لم يكن البلدان على علاقة جيدة، بل حدثت العديد من الأزمات السياسية والعسكرية والتي تأسست عليها الكثير من الممارسات اللاحقة؛ إذ ترجمت بعمليات انتحارية أو إرهابية ترتب عليها الردود العسكرية كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي؛ إذ مولت الحكومة الليبية في ظل حكم "معمر القذافي" عدة عمليات ضد المصالح الأمريكية، ولا سيما التفجير الذي وقع في ملهى ليلي ببرلين عام 1986، والذي سقط جراءه رعايا أمريكيين، وقد ردت عليه الولايات المتحدة بقصف ليبيا، كما ترافقت المرحلة بتذبذب في العلاقات الدبلوماسية، على الرغم من أنها لم تنقطع نهائياً فقد تراوحت بين تقليص التمثيل الدبلوماسي ورفع مستواه بين البعثة والسفارة تارة وإغلاق السفارة تارة أخرى وإعادة فتحها تبعاً للمناخ السياسي العاصف بين البلدين في تلك المرحلة، وهو الطابع العام الذي طبع العلاقات الليبية الأمريكية، مما ينعكس بشكل واضح على فقدان السياسة الليبية الخارجية للمرونة الكافية من باب استيعاب التوازنات لا من باب أن السياسة الأمريكية هي النموذج المتبع، وينبغي على ليبيا أو غيرها الانصياع لها ولكن المصالح الاستراتيجية والتوازنات تفرض على الدول الصغيرة أن تتصرف بحكمة تسمح لها بالالتزام بسيادتها وحمايتها وصون مبادئها وقضاياها الوجودية من جهة والحفاظ على مسارات متوازنة ومستقرة مع القوى الكبرى، ليتسنى لها النهوض والتقدم وبناء قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهو الأمر الذي لم يكن متاحاً في ظل تلك العلاقات.
الثانية: ما بعد عام 2012: بعد اندلاع الصراع في ليبيا والثورة على حكم القذافي عام 2011 كانت الولايات المتحدة من الدول التي ساندت الحراك وأيدته، بل إنها شاركت في النزاع بصورة مباشرة، وذلك من خلال تنفيذ عمليات عسكرية على شكل ضربات جوية لمساندة المناهضين للقذافي، الأمر الذي أعطى الحراك دفعاً مادياً ومعنوياً وحضوراً إعلاميا أسهم بطريقة مباشرة في إضعاف النظام الليبي الممثّل بمعمر القذافي والذي أدى في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام القذافي، وقد تعهد بعده الرئيس الأمريكي آنذاك "باراك أوباما" بالتزام واشنطن بمساندة الليبيين إذ قال: "إن الولايات المتحدة ملتزمة تجاه الشعب اللييبي"، كل ذلك أعاد إمكانية التقارب الأمريكي الليبي، ولكن بعد أن تطور الصراع إلى حرب أهلية بين الليبيين ترنحت بين كر وفر ومحاولات للسيطرة على الوضع، حتى الانقسام بين "حكومة الوفاق" في طرابلس والجيش الوطني بقيادة "المشير خليفة حفتر" في بنغازي باتت السياسة الدولية مترقبة متريثة ريثما يستقرر القرار الليبي ولكن التطور الحاصل فيما بعد وبارتفاع أسهم الجيش الوطني على المستوى الشعبي الليبي والدولي باتت الكفة ترجح الجيش الوطني، الذي اتضح أنه يعمل بتوازن ثابت بين المصالح الليبية والمصالح الدولية والاستقرار الدولي بمناهضة الإرهاب واجتثاث الجماعات المتطرفة، وهو الأمر الذي يتماشى والمصلحة الشعبية للشعوب كافة، بما فيها الشعب الليبي، كما يتماشى والجهود العربية والدولية في ضمان استقرار الإقليم العربي ليأتي القرار الأمريكي برسالة واضحة بتأييد "حفتر"، وأنه النموذج السياسي الليبي الذي يراعي المصالح الوطنية والدولية، وأن هذا النموذج يمكن التعامل معه وفتح القنوات السياسية والدبلوماسية، وقد ترجم ذلك بقرار الولايات المتحدة بفتح سفارتها في بنغازي عاصمة الجيش الوطني الذي بات على أعتاب طرابلس.
إن كل هذه التجاذبات السياسية والاضطرابات الميدانية والدبلوماسية لا تعني أن تكون ليبيا تابعة لأي دولة عظمى كانت أو صغرى، إلا أن الأمر أبعد من ذلك بكثير بالنسبة لبلد بات على أعتاب العقد من الصراع والحرب الأهلية؛ إذ بلغت من السوء حد أن معظم سفارات العالم أغلقت فيه لتجعله بلداً شبه معزول إلا من المليشيات والجماعات المتطرفة، ليكون افتتاح السفارة الأمريكية بوابة لعبور ليبيا من أزمتها بما ينهي الشقاق باعتراف دولي بطرف واحد واعتبار الآخر طرفاً غير شرعي يُصار لاحقاً إلى إنهاء وجوده وبمساع ليبية ودولية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة