واشنطن مستعدة قطعا لهذا المسار، وتصريحات ترامب هي بمثابة إنذار أخير للنظام الإيراني بالتراجع وإعادة التفكير مرة أخرى في سياساته.
نهار الأربعاء المنصرم ومن قلب العاصمة البريطانية لندن، أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى أن النزاع مع إيران قد يمضي في أكثر من طريق، فعلى الرغم من أن الرجل يفضل الحوار فإن طاقة الحرب وفرصتها لا تزال مفتوحة وبقوة في مواجهة الإيرانيين، يؤمن ترامب بأن إيران كانت شديدة العدوانية عندما وصل نظام الملالي للسلطة، كانت الدولة الإرهابية الأولى في العالم آنذاك، وربما لا تزال كذلك حتى اليوم.
في حال ارتكبت إيران حماقات بعينها، كالإضرار بجيرانها أو بالملاحة في مضيق هرمز، فإن حلقات مسلسل الصدمة والترويع ستكون واقعة لا محالة من خلال حملة جوية واسعة النطاق لتدمير القوات الإيرانية برا وبحرا، في أوركسترا عسكرية لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
هل يحتاج حديث ترامب إلى مزيد من التحليل والتدقيق في محاولة لاستكشاف آفاق فكر الجالس بقوة في البيت الأبيض؟
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس ترامب معروف أنه "غير متوقع"، لكن ذلك لا يعني أن الرجل يتحدث من باب الغرور وحسب، ففي هذا الاعتقاد تبسيط مخل بحيثيات ومنطلقات أفكار وقرارات رئيس أقوى دولة في العالم، والتي لم تطاولها أي قوة بعد، رغم كل ما يقال عن زمن الأقطاب المتعددة.
حينما يتحدث رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، فهو مدعوم ومزخوم ولا شك بآخر التطورات، وما التقارير اليومية الاستخبارية عالية السرية والمصنفة تصنيفا لا يسمح إلا لأفراد يعدوا على الأصابع الاطلاع عليها، إلا دليل على أنه لا يصرح من فراغ، بل هي دلائل ومؤشرات لما هو قادم.
الأمر الآخر المهم بعينه في القصة برمتها، هي جغرافية المكان الذي يتحدث منه، فإن لندن لا تزال الشقيق الأكبر والصديق الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية، منذ زمن الاستقلال الأمريكي، عطفا على أن حضوره في هذا التوقيت في عاصمة الضباب له خلفية تاريخية تلقي بظلال على وحدة الأوروبيين والأمريكيين أمام قوى الشر، تلك التي تمثلت في النازية والفاشية ذات مرة، والآن تتبدى في شكل إيران ومن لف لفها من الأذرع المليشياوية، في بعض العواصم العربية والغربية.
بعض من الذين استمعوا إلى الرئيس ترامب توصلوا إلى أن الرجل يمارس نوعا من أنواع الحرب النفسية والضغوط العصبية على الإيرانيين، كي يفقدهم يقينهم فيما إن كان الرئيس ترامب يفضل الحرب أم السلام.
قبل تصريحات ترامب في لندن بدا واضحا أنه نما إلى علمه تسريبات نائب المدير العام السابق للضمانات في الوكالة الدولية للطاقة الذرية "أولي هاينونين"، والتي أشار فيها إلى أن إيران قادرة على امتلاك يورانيوم مخصب لصنع الأسلحة في مدة زمنية تتراوح بين 6 إلى 8 أشهر، على أقصى تقدير.
هذا التصريح الأخير قلب الأمور رأسا على عقب، لا سيما وأن المعلومات التي كانت متوفرة للولايات المتحدة من قبل، وضعت حدا زمنيا لا يقل عن عام يمكن فيه لطهران امتلاك السلاح النووي، ويومها تساءل الجميع من لديه الرغبة في الصبر على إيران نووية خلال عام.
الآن تغير المشهد ليضحى الحديث عن ستة أشهر، وهي فترة زمنية سريعة، خصوصاً وأن إيران وعلى خلاف ما تظهر للعلن من حزن وأسى على انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاقية النووية المبرمة عام 2015، قد شعرت بالراحة انطلاقا من أن لديها قدرة على تخصيب اليورانيوم، وإمكانية لبناء المزيد من أجهزة الطرد المركزي، واستعدادا لاستيعاب المزيد من العقوبات.
الرئيس ترامب في تصريحه الأخير عن الحرب مع إيران كان يضع ولا شك في خلفيته المعلوماتية تقديرات أجهزة الاستخبارات الأمريكية، والتي تشير إلى أن إيران وقبل يوليو 2015 كانت تملك مخزونا كبيرا من اليورانيوم، ونحو 20 ألف جهاز للطرد المركزي، وهي كمية تكفي لإنتاج ما بين 8 و10 قنابل نووية.
هل من دلالة زمنية ما للأرقام المتقدمة؟
باختصار غير مخل، فإنها تعني المقدرة الإيرانية، في حال وجود قرار فوقي لإنتاج سلاح نووي، للحصول على كمية كافية من اليورانيوم المخصب بحدود 90% خلال شهرين أو ثلاثة فقط، وهي الكمية اللازمة لإنتاج القنبلة النووية الإيرانية الأولى.
السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه: هل يمكن لواشنطن أن تنتظر بلوغ إيران العتبة النووية، أم أن لديها بالفعل خططا عسكرية بديلة جاهزة، حازمة وحاسمة، لمواجهة إيران عسكريا، ورغم كافة التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي عن الحوار مع الإيرانيين، والمساجلات الإيرانية من حولها؟
ينبغي هنا الإشارة إلى أن الرئيس ترامب جوهريا يعمل وفقا للقاعدة الذهبية: "إن أردت السلم فاستعد للحرب"، وهذا ما يبرر التحركات الأمريكية العسكرية في الشرق الأوسط، والخليج العربي، غير أن خطابه عن الحوار هو موجه بالأساس إلى الداخل الأمريكي، فالرجل كان رهانه الرئيسي قبل أن يدلف إلى البيت الأبيض هو وقف سفك الدم الأمريكي، وعدم إرسال المزيد من الجنود الأمريكيين إلى حروب في الخارج، وقد قالها صريحة مريحة لشعبه: "لسنا شرطي العالم".
لكن هناك حدودا بعينها لا يمكن الصمت تجاهها، فالرؤية الاستراتيجية لأمريكا في القرن الحادي والعشرين والتي وضعها المحافظون الجدد، تتمركز حول أن يكون قرنا أمريكيا بامتياز، ولهذا فإن استراتيجية الاستدارة نحو آسيا، التي تهدف إلى حصار الصين وروسيا، لا يمكن لها أن تمضي قدما قبل الخلاص من الأزمة الإيرانية؛ ذلك لأن امتلاك إيران سلاحا نوويا يفيد بعقبة جديدة في الطريق، عطفا على المهددات الأخرى، وفي المقدمة منها أمن دولة إسرائيل.
هل لدى إدارة ترامب رؤية واضحة عن مجابهة عسكرية مع الإيرانيين؟
بعض التسريبات والتحليلات التي تهب علينا من واشنطن تذكرنا بأن إدارة ترامب في طريقها، لتفعيل السيناريو العسكري المعروف باسم "الصدمة والترويع"، والذي تم تنفيذه لغزو العراق عام 2003، وهو يعني الهيمنة السريعة، وهي عقيدة عسكرية قتالية تعتمد على استخدام القوة الساحقة والعرض المذهل لشل تصور العدو لميدان المعركة، وتدمير إرادته القتالية.
لن تمضي واشنطن في الصدمة والترويع إلى الغزو البري، لكن من المؤكد أنها ستوجه نيران أسلحة جهنمية إلى مواقع المنشآت النووية، ما هو معلن عنه، وما خفي عن العوام.
وفي حال ارتكبت إيران حماقات بعينها، كالإضرار بجيرانها أو بالملاحة في مضيق هرمز، فإن حلقات مسلسل الصدمة والترويع ستكون واقعة لا محالة من خلال حملة جوية واسعة النطاق لتدمير القوات الإيرانية برا وبحرا، في أوركسترا عسكرية لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
واشنطن مستعدة قطعا لهذا المسار، وتصريحات ترامب هي بمثابة إنذار أخير للنظام الإيراني بالتراجع وإعادة التفكير مرة أخرى في سياساتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة