الجانب التركي لطالما لعب على هذا الحبل رافضاً الاعتراف بدولية نهري الفرات ودجلة.
لم تدخر الحكومة التركية برئاسة "رجب طيب أردوغان" ورقةً سياسية أو إنسانية أو عسكرية، إلا واستثمرتها في حربها التي تسعى من خلالها لتحقيق الحلم السلطاني للرئيس التركي "أردوغان" وبسط نفوذه على المحيط العربي مستغلاً الفوضى العارمة التي تعيشها بعض الدول العربية جراء الصراعات التي تعصف - بها سوريا والعراق مثالا على ذلك-، وكان آخر هذه الأوراق المياه.
فأعظم نهرين بالنسبة للسكان في الدول العربية بعد النيل هما دجلة والفرات، اللذان ينبعان من هضبة أرمينية في تركيا وهما عماد الزراعة للمناطق التي تعد السلة الغذائية لكلٍ من سوريا والعراق.
ولكن ما الذي يجعلنا نضم مياه النهرين العظيمين لترسانة الأسلحة التركية؟ إن السبب يكمن في أمرين رئيسين عملت عليهما تركيا لتفعيل هذا السلاح:
من المعروف أن مياه الأنهار ينظمها قانون دولي قائم على المحاصصة العادلة لكل دولة يمر في أراضيها نهر ما من المنبع وحتى المصب.
الأول: تحدي القوانين الدولية: فمن المعروف أن مياه الأنهار ينظمها قانون دولي قائم على المحاصصة العادلة لكل دولة يمر في أراضيها نهر ما من المنبع وحتى المصب، إذا ما اعتبر النهر دولياً.
ولكن الجانب التركي لطالما لعب على هذا الحبل رافضاً الاعتراف بدولية نهري الفرات ودجلة، اللذين يقر القانون الدولي في قانونه الخاص بالأنهار والمجاري المائية على أنهما دوليين كالنيل والأمازون والدانوب، أما الجانب التركي فيصر على أنهما مجرد عابرين للحدود في مخالفة واضحة للمادة "د" من مبادئ "هلسنكي" التي تقضي بأن الفرات نهرٌ دوليٌّ .
كما يخالف اتفاق "لوزان" بين الدولة العثمانية والحلفاء عام 1923 التي تنص في بندٍ من بنودها على اعتبار النهرين دوليين، وأنّ من أراد من دول الحوض إقامة المشاريع والسدود لا يمكنه ذلك إلا باتفاق بينها لعدم الإضرار بمصالح دول الحوض على النهرين.
ويضاف إلى كل ذلك الاتفاق الذي جرى بين الجانبين السوري والتركي والذي ينصُّ على تعهد "أنقرة" بالحفاظ على منسوب ثابت من تدفق المياه في نهر الفرات على أن لا يقل عن 700متر مكعب في الثانية، وكان هذا آخر اتفاق مبرم بين الجانبين، إلا أنّ "تركيا" اليوم تخالف هذا الاتفاق مستغلةً الأوضاع الصعبة سياسياً وميدانياً في كل من سوريا والعراق لتحبس مياه نهري الفرات ودجلة.
فقد سجل الفرات في الأيام الماضية أقل كمية تدفق مائي عبر تاريخه على الرغم من أنّ موسم العام من الأمطار كان غزيراً، ولكن ذلك نتيجة تفعيل تركيا لسد "أليسو" العملاق، فقد وصل التدفق المائي لنهر الفرات في سوريا إلى ما يقل عن 200 متر مكعب في الثانية، ليزداد شحاً في العراق.
الثاني: استغلاله لتمرير أوراق سياسية، ليست هذه المرة الأولى التي تستخدم "أنقرة" فيها المياه كسلاحٍ لتمرير أوراق أو مشاريع سياسية.
ففي نهاية عام 2018 وبداية عام 2019 وفي موسم الجفاف قررت حكومة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" البدء بملء السد، الأمر الذي انعكس على انخفاض منسوب نهر دجلة درجة نفوق أعداد كبيرة من الأسماك فضلاً عن شح المياه وتضرر الموسم الزراعي.
كانت هذه الخطوة بُعيد بدء انهيار تنظيم "داعش" الإرهابي، فكانت ورقة وسلاحاً لإجبار العراق على غض البصر عن الخرق التركي السافر لسيادة العراق من خلال التدخل بحجة حماية الأقليات وحماية عمق الأمن القومي التركي بزعم تزايد نفوذ "الميليشيات وقوات البيشمركة".
أما اليوم فتكمن القيمة المستفادة من هذا السلاح ونعني به "سلاح المياه" الذي تستخدمه تركيا مستغلةً الاضطراب على الساحة السورية جراء تجاذبات العقوبات الأمريكية والصراع الإسرائيلي الإيراني، ومناوشات مناطق خفض التصعيد من جهة وتنامي دور "قسد" التي تشعر بشيءٍ من القوة لا سيما بعد استثناء مناطق سيطرتها من العقوبات الأمريكية وفق قانون "قيصر"، وذلك لتضعها في حالة أزمة وركود جراء حرمانها من الثروات الزراعية والطاقة الكهرومائية.
إذا ما قاطعنا هذا التصرف مع تصرف سرقة تركيا للمحاصيل الزراعية في الشمال السوري وحرق ما لم تصل إليه يدها منها بغية الوصول إلى الإخضاع الاقتصادي أو المائي، بالإضافة إلى التصرف الآخر وهو ضرب محطات توزيع المياه في منطقة "علوك" التي تغذي مدينة "الحسكة" بمياه الشرب وهي التي تقع تحت سيطرة قوات الجيش السوري، وهو التصرف الذي أدى تكرره إلى وجود قنوات تفاوضية بين الأتراك من جهة والروس والحكومة السورية من جهة أخرى حول هذا الأمر، مما يعزز فرضية "سلاح الماء" لفرض قنوات تفاوضية بين أنقرة من جهة وواشنطن وقسد من جهة أخرى، تقوي الموقف التركي، وتزيد أوراقه التفاوضية على أي نشاط سياسي أو ميداني محتمل، بالإضافة إلى ملف تفاوضي مع روسيا والحكومة إزاء أي تحرك سياسي أو عسكري .
بغض النظر عن المقاصد التركية وتطلعاتها لاستخدام "الماء" كسلاح على أي جهة ميدانية تسيطر على الأرض سواء الحكومة أو قسد أو حتى واشنطن وموسكو، فالمتضرر الأكبر من هذا السلاح هو الشعب السوري ولا سيما شرق الفرات، الشعب الذي سرقت غلاله وأحرقت محاصيله ويرزح تحت وطأة عقوبات قاسية لتكتمل معاناته بقطع حتى مياه الشرب عنه، ليأخذ الأمر أبعاداً اقتصادية وسياسية واجتماعية بل وحتى إنسانية بحتة.
ولكن هذا ليس بغريب عن "أردوغان" وسياساته التي لا همّ لها ولا هدف نصبَ عينيها غير تمرير مشروع السلطنة بعباءة المرشد على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة