تؤكد طريقة تعاطي إيران تجاه ما حدث في ميناء الفجيرة وتناقض المواقف حالة الانقسام الداخلي التي تعيشها بين تيارات متشددة
منطقة الخليج العربي ليست منطقة محلية أو إقليمية فحسب، بل هي منطقة ذات عمق استراتيجي عالمِيٍّ بدءاً من الموقع الجغرافي إلى الموقع الاقتصادي بين الاقتصادات العالمية وانتهاء بالبعد السياسي، لذلك فإن الأمن الخليجي ليس أمناً لدول الخليج والمنطقة، بل هو أمن عالمي بامتياز لما يشكله من نقطة وصل بين الشرق والغرب، وعروة الاستثمار والاقتصاد العالمي، ولا سيما دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية اللتان تشكلان ميزان التوازن الاستراتيجي للاقتصاد العالمي في قطاع الطاقة وشريان الاتصال البحري.
ليس من المبالغ القول إن الأمن المائي والبحري لمنطقة الخليج العربي خط أحمر لا يمكن السماح بالعبث به لكائن من كان؛ لأنه أمن دولي بامتياز يستوجب ردوداً دولية على مستوى العالم أجمع
ومن هنا فإن أي مساس بأمنهما المائي والبحري لا تسلم منه حتى أقصى دولة من دول العالم عظمى كانت أم صغرى، فنجد أن الأعمال التخريبية التي استهدفت سفناً تجارية قبالة المياه الإقليمية الإماراتية وتحديداً قرب ميناء "الفجيرة" الاستراتيجي لم تتوقف عند البعد الاقتصادي والأمني الإماراتي أو الخليجي أو حتى العربي، بل أخذت بعداً سياسياً وأمنياً وعسكرياً دولياً، على اعتباره سابقة خطيرة تنذر بسعير إن اشتعل فلن تطفئه مياه الخليج لأنه سيمتد ليشعل العالم.
لا شك أن ما جرى ليس حدثاً عابراً ولا يمكن تجاهله أو اعتباره حدثاً بسيطاً، ومن ثم يجب أن يتم التعامل معه بحكمة توازي خطورته لتجنيب العالم أجمع كارثة حقيقية، ويمكن رصد التعاطي معه على جانبين:
الأول وهو الجانب الإماراتي والدولي: فما إن أعلنت وزارة الخارجية الإماراتية أن سفناً تجارية من جنسيات عدة تعرضت لأعمال تخريبية قبالة المياه الإقليمية الإماراتية في ميناء "الفجيرة" حتى سارعت الكثير من الدول لإدانة هذه الأعمال ووقوفها إلى جانب الإمارات، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية التي تنشط سفنها الحربية وبوارجها في مياه الخليج العربي، تحسباً لأي تطورات تمس أمن المنطقة، بعد توتر الأوضاع مع "إيران" في الآونة الأخيرة.
ولكن الحكمة الإماراتية في التعاطي مع الحدث برزت منذ الساعة الأولى، وتحديداً بالتصريح الأولي عن الحادثة، إذ وصفتها وزارة الخارجية الإماراتية بـ"الأعمال التخريبية" دلالة على تحري الدقة وإدراك خطورة التعاطي مع هذا الحدث؛ لأن الأمر لا يتعلق ببلد واحد بل العالم أجمع.
هذا التصريح لا يحمل في طياته اتهاماً لأي طرفٍ، بل يدل على التريث، ريثما يتم تحديد هوية الفاعلين ومقاصدهم من هذا الاعتداء، بالإضافة إلى تأكيد دولة الإمارات أن هذه الحادثة لن تمر دون ردٍّ يوازي هذا العبث بالأمن الدولي بعد أن تتبين الحقائق، إن هذا التعاطي الإماراتي ينم عن مهنية أمنية وسياسية عالية تعي أبعاد هذا الحدث، كما تنبع من قوة وثقة باللجان المؤسساتية المكلفة بالتحقيق بالحادثة وحكمة توازي الأهمية الاستراتيجية لدولة الإمارات وأمنها المرتبط بالأمن العالمي.
الثاني وهو الجانب الإيراني: منذ الإعلان عن أعمال التخريب التي طالت السفن التجارية قبالة ميناء "الفجيرة" كان هو الحدث الأبرز على الساحة الإعلامية العربية والعالمية، ونشطت التحليلات في تحديد الأطراف المحتمل تورطها في الحدث، ولا سيما الجانب الإيراني الذي كثرت تهديداته مؤخراً في إشعال المنطقة، كرد على العقوبات والحصار الأمريكي المفروض على إيران التي تشهد اليوم أسوأ حالاتها الاقتصادية والسياسية والعزلة الدولية.
لكن على نقيض الهدوء والتريث الإماراتي ظهر التشتت الإيراني في تعاطيه مع الحدث، فتارة يقرؤه ساستُها على أنه إشارة إلى أن الأمن في الخليج العربي هش، وتارة يعود إلى الدعوة للتريث لأن هذا الحادث لا يمس أمن الخليج العربي فحسب بل هو مساس بالأمن الدولي والأمن الإيراني، وأن هناك طرفا ثالثا يريد إشعال المنطقة والزج بإيران والعالم في صراع ليس من مصلحة العالم ولا من مصلحة إيران إلا احتواؤه، هذا ما جاء على لسان رئيس لجنة الأمن القومي الإيراني والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني "حشمت الله فلاحت بيشة".
وتؤكد طريقة تعاطي إيران تجاه ما حدث في ميناء الفجيرة وتناقض المواقف حالة الانقسام الداخلي التي تعيشها البلاد بين تيارات متشددة متمثلة بالحرس الثوري الإيراني، وأخرى إصلاحية متمثلة بتيارات سياسية ترفض السياسة العامة الإيرانية القائمة على الارتجال في التعاطي مع الأزمات المتلاحقة التي تعصف بها.
ليس من المبالغ القول إن الأمن المائي والبحري لمنطقة الخليج العربي خط أحمر لا يمكن السماح بالعبث به لكائن من كان؛ لأنه أمن دولي بامتياز يستوجب ردوداً دولية على مستوى العالم أجمع، ولنا في التاريخ خير شاهد، ففي خضم الحرب الإيرانية العراقية التي امتدت بين عامي "1980-1988" أدرك حكام إيران آنذاك التي كانت وقتئذٍ في نشوة انتصار الثورة الخمينية وفي معركة إثبات للوجود، أنّه ليس بوسعهم الاقتراب من أمن منطقة الخليج، وعليه لا بد من طرح السؤال الآتي فيما إذا كان قادة إيران الحاليون على إدراك بما تجنّبه أسلافهم؟
إن كان الجواب نعم فهو خير على خير، وستبقى المنطقة آمنة مستقرة إلى حد ما، وإن كان عكس ذلك سنكون أمام حرب لن تبقي ولن تذر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة