يجد دعاة «صراع الحضارات» حججًا كثيرة يدعمون بها ما يدعون إليه. فحروب الهويّات على أشّدها
يجد دعاة «صراع الحضارات» حججًا كثيرة يدعمون بها ما يدعون إليه. فحروب الهويّات على أشّدها، والهجمة العنصرية على الإسلام مستعمرة وبربريّة «داعش» ضّد المختلف والآخر ساطعة، والعداء لليهود في أوروبا يشهد بعض الانبعاث، واحتمالات الحرب التجاري بين الولايات المّتحدة والصين تربة خصبة...
وبدوره، فصعود دونالد ترامب و «بريكزيت»، واحتمال أن يصعد رفاق شعبويون لترامب في بلدان أخرى، أمور لا تنفصل عن الهجرات والتحّولات السكانية والديموغرافية ومشاريع بناء الجدران العازلة...
هذا كّله صحيح. إ ّلا أّن ما يفوقه صّحًة أّن «الغرب» ينقسم غربين على نحو لا سابق له. أ ما «الشرق» – وبدلالة الثورات التي عصفت وتعصف بغير بلد – فهو أيضًا أكثر من شرق واحد وأكثر من إسلام (وهندوسيّة و...) واحد. حّتى بالنسبة إلى المنظور «الحضاريّ »
الذي يتجاهل التناقضات داخل البلدان، سيُ معن انشطار الرابطة الأطلسية، تحت وطأة ترامب، في تصديع وحدة «الغرب» المفترضة.
ومع «بريكزيت»، تتصّدع الوحدة الأوروبية نفسها. وهو ما يقابله في «الشرق» النزاع السّنيّ -الشيعي وما يصحبه من تضارب في مصالح الدول وفي تأويلها لأيديولوجياتها المقّدسة الحاكمة.
أحد أسباب تصريف التحّولات بالحروب الأهلية، فإّن لغة «الغرب» ليست كذلك. فالتعبير عن الانشطار الأميركيّ-الأميركيّ والغربيّ -الغربيّ حيال ترامب والظاهرات المشابهة لا يقّل عن الانشطار نفسه، بل يفوقه توكيدًا. وهذا النزاع المفتوح والصريح، في الولايات المّتحدة كما في أوروبا الغربية، إّنما يطاول فئات المجتمعات جميعًا وشرائحها، كما يغّطي قضاياها الحياتية من دون استثناء. فمن الديموقراطية والسياسة والحقوق إلى البيئة والجنس، ومن الفّن والثقافة إلى الهجرة واللجوء، ومن الدولة – الأّمة إلى مفهوم الكونية، ينشّق «الغرب»، ملايينه ضّد ملايينه، ويقول انشقاقه بإسهاب وبلاغة.
وواقع كهذا إّنما يعيد إدراج «صراع الحضارات» في سياقه، أي في شروطه ومحدوديته. فهو ليس مطلقًا، وليس بريئًا أو عديم الوظيفة، إ ّلا أّنه أيضًا ليس الأفق الوحيد، ولا الأفق الأقوى، المطروح على مستقبل إنسانيتنا. ولا تعوزنا البراهين على أّن الصراع السياسي والثقافي في «الغرب» يتحداه عند كّل منعطف بقدر ما يطّور اللغة التي يتحّداه بها: فهي تغرف من التنوير كما من الحقب اللاحقة التي انتعشت فيها الديموقراطية مصحوبة بالمساواة والازدهار والأمن في آن.
وربما جاز القول إن كونّية الإنسان وحقوقه، في حريته وجسده وعقله، هي العنوان الأّول والأكبر في قائمة الانشقاقات الغربية الراهنة. وهذه الكونية وتلك الحقوق تبقى نظريا الجسر الأمتن بين انشقاق «الغرب» غربين على الأقّل، وانشقاق «الشرق» شرقين على الأقّل أيضًا.
لكّن السؤال الذي سيُ طرح علينا في هذه المنطقة المنكوبة بالاستبداد على تعّدد صوره: هل سننجح في ربط انشقاقنا الذاتيّ بانشقاق «الغرب» في ظّل تل ّكوئنا اللغويّ والتعبيري عن وصف انشقاقنا؟ وهل سيأتي اليوم الذي تقول فيه كتلنا الشعبي إّن مشكلتنا الأولى هي حقوق الإنسان وكونيته، مستعينًة بمراجع ومثالات من تاريخها تقاتل لأجلها؟
يغامر واحدنا بالقول إّن تناقضات ثلاثة كبرى تعيق تحّو ًلا كهذا: ذاك أّن أغلب المقهورين والمنت َه َكة حقوقهم الإنسانية في بلادنا
يحملون أفكارًا تفضي بهم إلى الهّويات وصراع الحضارات أكثر مّما إلى الرحابة والشراكة الكوني تين ّأما المثالات والنماذج، في تاريخينا القديم والحديث، فيستدرجها صراع الهويات والحضارات إليه أكثر مّما يخاطبها التواصل الكونيّ التفدمي العابر للأديان والقوميات. وأخيرا فإن جاذبية الاحتراب الأهلي داخل شرنقتنا، تبعًا لتراكيبنا العصبية والقرابية تفوق جاذبية مذ الجسور مع شركاء الاجتماعية التي تخاطبهم.
وفي المعنى هذا، سيُ كتب للمساهمة العربية، خصوصًا منها مساهمة اللاجئين إلى أوروبا والمتفاعلين مع تجربتها، دور أساسيّ إّما في تزكية «صراع الحضارات» أو في تقويضه، علمًا بأّنه، في النهاية، صراع هّش وشديد القابلي للتقويض.
نقلا عن / الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة