الغرب وسلام أوكرانيا.. شروط لسد الفجوات بين الأرض والمفاوضات

فجوات بين الأرض والمفاوضات تعلق بين جانبيها آمال سلام صعب في أوكرانيا، في ظل غياب نقاط يرتكز عليها مسار إنهاء أسوأ حرب شرقي أوروبا، وفق رؤية أوكرانية.
وبينما تدخل الحرب في أوكرانيا عامها الرابع، تتكثف الضغوط الدولية لدفع الطرفين نحو تسوية، خصوصًا مع تزايد التكاليف البشرية والاقتصادية، ومع تغير أولويات بعض القوى الغربية في ظل تصاعد التهديدات العالمية الأخرى.
- «المسيرات» وصيف أوكرانيا.. «حصان أسود» في ساحة الاشتباك
- حوار مشروط.. روبيو يحذر موسكو من تجاهل مسار مفاوضات أوكرانيا
ووفق تحليل لـ«فورين أفيرز» فإن ما يبدو في ظاهره سعيًا لـ«سلام شامل» لا يخفي واقعًا مغايرًا، فالحرب لم تصل بعد إلى نقطة توازن حقيقية تُمكّن أي طرف من فرض شروطه على الطاولة.
كما أن الثقة غائبة، والتصورات المتضاربة حول معنى «السلام» تضع أوكرانيا والغرب أمام مفترق طرق خطير.
كييف ترفض «سلام الإكراه»
في تصريحات صريحة، جدد المسؤولون الأوكرانيون رفضهم التام لأي خطة تقضي بتقديم تنازلات إقليمية لروسيا، معتبرين ذلك وصفة لتكرار العدوان لاحقًا.
وبالنسبة للرئيس فولوديمير زيلينسكي، فإن أي تفاوض لا ينطلق من انسحاب روسي كامل من الأراضي التي تسيطر عليها موسكو هو بمثابة اعتراف ضمني بشرعية العملية العسكرية على بلاده.
هذا الرفض يتقاطع مع قناعة أوكرانية متجذّرة بأن روسيا لا تفاوض بصدق، بل تناور لكسب الوقت. فكل هدنة مؤقتة في منظور الكرملين هي فرصة لإعادة التموضع العسكري، وبناء دفاعات جديدة، والتحضير لجولة تالية من التصعيد.
أوهام «السلام السهل» في واشنطن
الحديث المتنامي في دوائر السياسة الأمريكية، وخاصة بين الجمهوريين المقربين من الرئيس دونالد ترامب، عن إمكانية فرض «صفقة كبرى» على الطرفين، يعكس انفصالًا متزايدًا عن تعقيدات الواقع الميداني والسياسي في شرق أوروبا.
وكان ترامب يعِد بأنه قادر على إنهاء الحرب خلال 24 ساعة، ويُروّج لمقاربة تقوم على «الضغط المتزامن» على كييف وموسكو. لكن هذا الطرح يواجه حقائق عنيدة:
أولها أن موسكو لا تزال متمسكة بمكاسبها الميدانية، وتسعى لضم أراضٍ جديدة.
وثانيها أن كييف باتت ترى الحرب معركة وجود، وليست مجرد نزاع حدودي.
وثالثها، وربما الأهم، أن أوروبا غير مستعدة لدفع ثمن سلام يقوم على إضعاف أوكرانيا، إذ سيُفسر ذلك في الكرملين كضوء أخضر لاجتياحات جديدة.
فجوة أدوات الردع
في الوقت الراهن، يدور الجدل داخل العواصم الغربية حول حجم ونوعية المساعدات العسكرية المطلوبة لأوكرانيا، في ظل تباطؤ بعض الحكومات، وخوف أطراف أخرى من الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع روسيا.
لكن هذه المراوحة تعكس أزمة أكبر، فلا توجد استراتيجية غربية متكاملة تربط بين الضغط العسكري على الأرض وبين مسار تفاوضي جدي.
الكرملين يستغل هذه الثغرات، ويعتمد على تراجع زخم الدعم الغربي، وبروز أصوات تنادي بـ«تعب التبرعات»، في حين تواصل روسيا استنزاف قدرات كييف وفرض واقع ميداني معقد..
لا تفاوض بلا توازن
من دون موازين ردع صارمة، ومن دون ضمانات دولية لأوكرانيا، لا يمكن الحديث عن مفاوضات حقيقية.
فكل تجربة تفاوض سابقة منذ عام 2014 – بدءًا من اتفاقات مينسك وانتهاء بمحادثات إسطنبول – أثبتت أن روسيا لا تلتزم بتعهدات غير مقرونة بتكاليف حقيقية.
ولهذا، فإن كييف تصرّ على ثلاثة شروط لأي عملية سياسية ذات مصداقية:
1. الانسحاب الكامل للقوات الروسية،
2. محاسبة موسكو على الجرائم المرتكبة خلال الحرب،
3. وضمانات أمنية دولية ملزمة.
أما في غياب هذه الشروط، فإن أي تفاوض لن يكون سوى غطاء مؤقت لفرض وقائع دائمة على الأرض.
أوروبا بين الانقسام والحاجة إلى الحسم
يدرك الأوروبيون أن إطالة أمد الحرب يحمل مخاطر وجودية، لكنهم في الوقت نفسه يترددون في اتخاذ خطوات تصعيدية حاسمة ضد روسيا.
فبين باريس وبرلين وبروكسل، تختلف التصورات حول حجم المخاطرة المقبولة. فرنسا تتحدث عن إرسال قوات رمزية لتدريب الأوكرانيين، وألمانيا ترفض ذلك بشدة.
وفي هذه الأثناء، يراهن بوتين على أن الخلافات الغربية ستُضعف الجبهة الموحدة، وتسمح له بفرض تسوية بشروطه.
وفق التحليل فإن الرغبة الأمريكية في «الخروج الآمن» من الملف الأوكراني، بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، أصبحت بمثابة فرصة تاريخية لبوتين لإملاء شروطه,
أما إذا بقي الدعم الغربي قائمًا، فمن المرجح أن تبقى الحرب في حالة استنزاف طويل، يعوّل فيه الطرفان على تغير التوازنات لاحقًا.
وفي الحالتين، فإن غياب استراتيجية موحدة تربط بين الأرض والمفاوضات سيبقي فجوة السلام قائمة، وقد تتحول هذه الفجوة إلى فوضى إقليمية أوسع.
لا سلام في الأفق
ما سبق يعني أن السلام في أوكرانيا ليس وشيكًا، لا بسبب غياب النوايا الحسنة فحسب، بل لأن ميزان القوى على الأرض لا يفرض تسوية.
وأي محاولة لفرض سلام زائف، على حساب السيادة الأوكرانية أو وحدة أراضيها، لن تؤدي إلا إلى صراع أطول، وربما إلى تصعيد أخطر يمتد إلى قلب أوروبا، وفق التحليل.
وفي ظل معادلة جيوسياسية المعقدة، تبدو أوروبا وكأنها أمام خيار وجودي، إما تعزيز استقلالها العسكري والسياسي بشكل جذري وسريع، أو الوقوف على أعتاب عصر جديد من الهشاشة الأمنية، يعيد أجواء الحرب الباردة، وربما ما هو أسوأ.
من هنا، تتضح معضلة الغرب: لا سلام قابل للاستمرار دون إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، أو على الأقل إقناع بوتين باستحالة تحقيق أهدافه من خلال القوة العسكرية.
وهذا يتطلب أولًا كسر وهم المفاوضات الخالية من موازين الردع، وثانيًا الالتزام بدعم أوكرانيا إلى النهاية، ليس فقط لحماية سيادتها، بل لحماية الاستقرار الأوروبي نفسه.
وما لم يتغير هذا النهج، فإن السؤال لن يكون عن موعد نهاية الحرب في أوكرانيا، بل عن مكان اندلاع الحرب التالية في أوروبا.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTI1IA== جزيرة ام اند امز