مع انهيار جدار برلين والمنظومة الاشتراكية الأوروبية بكاملها، وهزيمة بلدان ما سُميت ببلدان حركات التحرر التي طرحت هي الأخرى الاشتراكية طريقاً للخلاص، لم يعد لهذه الفكرة من أنصار.
شهد القرن العشرون والقرن الواحد والعشرون محاولات كثيرة لفهم حركة العالم، وبالتالي تحديد ملامح عامة لمصيره اللاحق. وفي كل الأحوال لم تكن هذه المحاولات إلا صورة للوعي الأوروبي _ الغربي بالعالم.
فلقد انطلقت الماركسية وبخاصة السوفييتية، قبل انهيارها، من أن عالمنا هو عالم الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
فالرأسمالية كما رآها الماركسيون الشيوعيون تعاني من أزمة بنيوية خانقة: أزمة قوامها تضخم وبطالة، وديمقراطية زائفة، وحركات عمالية مناهضة، وحركات تحرر تفقد الرأسمالية أهم شرايين بقائها، ناهيك من أن وجود المنظومة الاشتراكية الداعمة لكل حركات التحرر من الرأسمالية تزيد من أزمة الرأسمالية هذه، وتعجل من عملية انهياره.
ومع انهيار جدار برلين والمنظومة الاشتراكية الأوروبية بكاملها، وهزيمة بلدان ما سُميت ببلدان حركات التحرر التي طرحت هي الأخرى الاشتراكية طريقاً للخلاص، لم يعد لهذه الفكرة من أنصار، اللهم إلا بقاء القول بأن الرأسمالية، المتعولمة مازالت تعاني من أزمة.
أما ريمون آرون فقد قدم في كتابه المجتمع الصناعي فكرة مختلفة، تقوم على أن سمة العالم اليوم، في الرأسمالية والاشتراكية هي الصناعة المتطورة، والتي ستستمر في تطورها.
ومع تطور الصناعة التي ستؤدي إلى تحقيق مجتمع الوفرة والرفاه، كل من النظامين سيجدان نفسيهما في النهاية وقد وصلا إلى حالة من التشابه، وستخبو نار الصراع الأيديولوجي الدائر بين عالم الرأسمالية وعالم الاشتراكية.
فالعنصر الحاسم في حركة العالم هو العلم والتقنية، وستجد جميع الدول نفسها وقد سارت على طريق التحديث. لم يبق من هذا التصور إلا فكرة أثر التطور العلمي التقني على العالم أجمع.
في عام 1970 يكتب بريجنسكي عن العالم ما بعد الصناعي، فالمجتمع ما بعد الصناعي هو مجتمع تكنو الكرتوني: أي مجتمع يشكله ثقافياً ونفسياً واجتماعياً واقتصادياً تأثير التكنولوجيا والاليكترونياً وبوجه خاص مجال العقول الالكترونية والاتصالات.
يشرح بريجنسكي أهم سمات المجتمع ما بعد الصناعي، وهي أن المعرفة أصبحت أداة للقوة، وتصبح النخبة الفعالة للكفاءات طريقة هامة للحصول على القوة، وتغدو الجامعة فريق تفكير. ويسود التفكير البرغماتي. والمرأة تتحول إلى عنصر مهم في المطالبة بالمساواة، ويزيد التأثير على البشر من قبل وسائل الاتصال الحديث.والحق إن نظرة بريجنسكي مازالت تتمتع بمصداقيتها حتى الآن.
ومع أزمة الاتحاد السوفييتي طل علينا فوكوياما بفكرة نهاية التاريخ التي تسم المجتمعات التي وصلت إلى الديمقراطية في أعلى مراحلها أميركا وأوروبا، ومن ثم فإن دولاً كثيرة مؤهلة لأن تدخل هذه المرحلة وبخاصة دول أوروبا الشرقية التي حطمت نظامها الشيوعي.
فيما دول العالم الثالث مازالت تعيش مرحلة التاريخ، أي مرحلة التناقضات الطبقية والقومية، وعلى الدول الديمقراطية أن تعمل على مساعدة هذه البلدان التي مازالت الأوتوبيات حاضرة في وعيها، ويبدو إن ما تشهده بلدان عربية من تناقضات وحروب ومآزق وبخاصة في اليمن وسوريا ولبنان والعراق يؤكد جانباً من وجهة نظر فوكوياما.
ثم أطل صموئيل هينتنغتون بفكرة صدام الحضارات بوصفها هي التي تفسر الآن وفيما بعد حركة التاريخ العالمي، وتكون الصراعات ذات طبيعة ثقافية- دينية في أساسها نعتقد بأن هذه النظرة ذات قوة معرفية محدودة. فالصراع الصيني-الأميركي ليس صراعاً بين الكونفوشيوسية والروح الغربية، الخ.
إذا كان الوعي الغربي بالعالم لا يتوقف فما هو وعينا الخاص، والمكانة التي يجب أن نحتلها في حركة العالم ؟
لا شك إن العرب اليوم يمرون بمرحلة انتقالية شديدة التعقيد ولكن هناك جملة من القضايا لا بد من التفكير فيها:
إن العالم يعيش تناقضات المراكز الأساسية وصراعات شديدة على الهيمنة، أمريكا والصين وأوروبا وروسيا، وهناك قوى صاعدة كالهند والبرازيل وتركيا، ولكن جميع هذه الدول تعيش تناقضات داخلية بحكم العولمة كصورة جديدة من صور قوة الرأسمال والعلم والتقنية.
وإن الحوكمة (الحكم الرشيد) أصبحت بالنسبة للعرب قضية مصير، بل وعلى ضوئها تتحد وحدة المصالح وانجاز جسد عربي قادر أن يكون فاعلاً في حركة العالم.
لا يمكن أبداً دخول العالم انطلاقاً من أيديولوجيا نكوصية أصولية وما تولده من تناقضات، بل إنه دون انجاز ثورة معرفية متحررة من الوباء الأيديولوجي لن يكون للعرب مكان في هذا العالم.
ألا فاعلموا.
*نقلا عن جريدة البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة