مجموعة من أصحاب المصالح يريدون عكس إرادة الشعب والاستفتاء الديمقراطي بأي طريقة، لأن استقلال بريطانيا عن بروكسل يهدد مصالحهم.
القانون حمار، عبارة إنجليزية الأصل «The Law is an ass». الاعتقاد الخاطئ أن القول يعود لتشارلز ديكينز في رواية «أوليفر تويست» عام 1838 على لسان المستر بامبل ضعيف الشخصية الخاضع تمامًا لزوجته المسيطرة، بقوله: «إذا كانت المحكمة قررت أنني مسؤول عن تصرفات وأفعال زوجتي، فإن القانون حمار».
لكن العبارة سبقت ديكينز بقرنين في رواية «الانتقام للشرف» للروائي الإنجليزي جورج تشابمان التي نشرت في 1653. ويعتقد مؤرخو الأدب أنه كتبها في 1620. ديكينز وظف القول، الذي كرره بعض أدباء السخرية، وإن لم يتسع انتشاره، لانتقاد مفارقات القانون. العدالة عمياء عن الأطراف المتنازعة قانونيًا، لكنها أحيانًا ما تعمي أبصارها عن المنطق الواقعي فيلحق القانون، الذي وضع بنية طيبة، الضرر بالطرف الذي يفترض أن يحميه ويرفس الحمار الشخص بدلاً من حمله فوق ظهره.
ديكينز كتب عن مجتمع منقسم طبقيًا، والفقراء لا حول لهم ولا قوة، والطبقة العليا (التي يأتي منها القضاة والمحامون) تمثل المؤسسة الحاكمة وتصدر أحكامًا بالغة القسوة على الطرف الأضعف. فساحة النزال هي معركة جدل وبالأدلة المادية، ومحامو الأثرياء يحولون «الحمار» إلى مطيّة يستغلونها للوصول إلى هدفهم.
تذكرت العبارة، والمشهد الذي صورته أدبيات ديكينز للندن في القرن 19، حيث تحول الثروة القانون إلى مطية يركبها موكلهم، بعد صدور حكم المحكمة العليا في لندن في قضية رفعها الأثرياء ضد 17 مليونًا ونصف المليون مواطن بريطاني.
وهو تلخيص للموقف وليس النص الحرفي لتسجيل القضية.
الرقم 17 مليونًا ونصف المليون هم الذين صوتوا باستقلال المملكة عن الاتحاد الأوروبي، أكبر أغلبية في التاريخ الحديث للانتخابات والتصويت في بريطانيا. الاستفتاء كان بقرار برلماني صوت عليه النواب بنسبة ستة أضعاف.. أي أن مقابل كل نائب برلماني صوت ضد الاستفتاء، أو امتنع عن التصويت أو غاب عن الجلسة، فإن ستة نواب صوتوا بإعطاء الشعب الكلمة الأخيرة عبر الاستفتاء، ونص القرار هو أن يلزم البرلمان الحكومة بتنفيذ قرار الشعب، لأن الحكومة المنتخبة لها الأغلبية البرلمانية، والنواب أنفسهم موظفون عند الشعب، وخدم له. الشعب عينهم عبر صناديق الاقتراع، ويدفع مرتباتهم وكل مصاريفهم ويمول البرلمان ويدفع كل مصاريف الحكومة من ضرائبه، ويستطيع أن يفصل الحكومة والبرلمان ويعيّن غيرهم في الانتخابات التالية.
في الكتيب الذي أصدرته حكومة ديفيد كاميرون بتكلفة تسعة ملايين جنيه من أموال دافعي الضرائب، كدعاية لصالح التصويت بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، وعدت الحكومة الشعب بتنفيذ القرار الذي سيأتي به الاستفتاء.
فما قصة القضية؟
المادة 50 من معاهدة لشبونة (كان اسمها الدستور الأوروبي الموحد، وكانت حكومة توني بلير التي وعدت الشعب باستفتاء على الدستور الموحد، تآمرت مع حكومات أوروبية أخرى طرحت الوعد نفسه، لتغيير الاسم من «دستور» إلى «معاهدة لشبونة» للتملص من الوعد).
المادة تصف انفصال عضو في الاتحاد الأوروبي (الذي انبثق عن معاهدة ماستريخت بتحويل السوق المشتركة فالمجتمع الأوروبي إلى اتحاد في طريقه للتماسك الفيدرالي). ولم توضع موضع التطبيق، فبريطانيا أول بلد يصوت بالخروج، ملخصها بدء عملية الانفصال بتقديم الدولة العضو نفسها بتفعيلها، وتستغرق مفاوضات الانفصال عامين، تنتهي العضوية في نهاية العامين، سواء توصلت بيروقراطية الاتحاد إلى اتفاقيات مع العضو المنفصل أم لا.
رئيسة الحكومة تيريزا ماي وعدت بتفعيل المادة 50 في ربيع 2017 أي في خمسة أشهر.
مجموعة من أصحاب المصالح يريدون عكس إرادة الشعب والاستفتاء الديمقراطي بأي طريقة، لأن استقلال بريطانيا عن بروكسل يهدد مصالحهم. المادة 50 صيغت بشكل معقد بغرض ألا تستخدم أبدًا، هذا ما قاله لي نيكولاس كليغ، زعيم الديمقراطيين الأحرار ونائب رئيس الوزراء السابق في حكومة الائتلاف، وهو أكثر الساسة، مع بلير، تحمسًا ونشاطًا لتعطيل الخروج وإلغاء نتيجة الاستفتاء. وأضاف كليغ في لقاء الغداء في وستمنستر ما يفيد بأن الشعب في الاستفتاء اشترى سيارة دون أن يفحص ما إذا كان المحرك قابلاً للتشغيل أم لا.
المادة 50 هي كعب أخيل استراتيجية حكومة المسز ماي التي التزمت بتنفيذ قرار الشعب البريطاني. حركة البقاء في الاتحاد الأوروبي بدأت محاولات تعطيل إجراءات الخروج. القشة التي يتعلقون بها هي ضرورة تصويت البرلمان لتفويض الحكومة قبل تفعيل المادة 50.
بريطانيا ليس فيها دستور مكتوب، الحكومة تستمد شرعية تفعيل المادة 50 من مبدأين قانونيين تعمل بهما البلدان التابعة للتاج البريطاني في الكومنولث (كندا وأستراليا مثلاً) والملكيات الدستورية. الأول هو التفويض المباشر من الشعب عن طريق الاستفتاء لأن سلطة الشعب فوق أي سلطة أخرى. المبدأ الثاني ما يعرف بالامتياز الملكي «Royal prerogative»، وهو مجموعة من التقاليد القانونية والقوانين العرفية والصلاحيات الدستورية المتراكمة، يعطيان تفويضًا مباشرًا للحكومة من التاج، باعتبار التاج حامي الدستور وموحد المملكة. فالحكومة البريطانية تسمى «حكومة جلالة الملكة»، والمعارضة تسمى «معارضة جلالة الملكة». الامتياز بتفويض القضاء والحكومة بدأ في 1387 بقضاة الملك ريتشارد الثاني. التاج يمنح الحكومة امتياز توقيع المعاهدات الدولية، وإعلان الحرب وإعلان حالة الطوارئ في الأزمات، كعرف تكرر لـ629 عامًا، وفي أمور أكثر خطورة من تفعيل مادة في معاهدة لشبونة التي صدق البرلمان عليها بعد توقيعها ولم يناقشها قبل توقيع بلير عليها.
القضية التي نظرتها المحكمة العليا رفعتها سيدة بالغة الثراء تمولها مجموعة من مستثمري حي المال والبنوك، للفصل فيما إذا كان الامتياز الملكي يتقدم على سلطة البرلمان أم لا. وهو حق يراد به باطل، لأن المدعية دعمت حملة إخضاع برلمان بريطانيا لسيادة بروكسل الأجنبية وهدفها الحقيقي التعطيل، لأن الحكومة قررت استئناف حكم يضع سابقة تراجع الامتياز الملكي.
طبعًا لا أحد يشك في نزاهة القضاة الثلاثة واستقلالية القضاء في بريطانيا وحكم القانون، ليس فقط لضمان حماية الديمقراطية، بل هي جزء من استقرار البلاد بتقاليدها العريقة، مما يطمئن أي مستثمر (والبلاد في حاجة للاستثمار والتجارة العالمية بعد الانفصال عن أوروبا) على ثبات واستقرار حكم القانون في بريطانيا.
مأزق آخر يضع الحكومة والديمقراطيين الحقيقيين في موقف حرج، فقد كان استقلال بريطانيا بقضائها وبرلمانها عن أوتوقراطية بروكسل وراء حملتهم للتصويت بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
ولا ديمقراطية حقيقية ثابتة ومستقرة بغير حكم القانون بتفسير قضاء مستقل وصحافة حرة. فلا بد من الانصياع لحكم القانون.
القضاة، بتأدية مهامهم، كسبوا بلا قصد كراهية الشعب الذي يفترض أن تحافظ عدالتهم العمياء على حمايته، وهنا أثبتوا بحسن نية تامة، أن القانون بالفعل حمار.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة