خلال دوراته الـ 35، استطاع معرض الشارقة الدولي للكتاب أن يشكل استجابة فعلية، وتفاعلية، مع قضايا الثقافة العربية القارّة والطارئة
يرحب الشاعر الراحل فاروق شوشة بزوار معرض الشارقة الدولي للكتاب بوصفه حارسا للغة العربية. . فعند المدخل الرئيس للمعرض في إكسبو الشارقة، اختار المنظمون أن يضعوا “بوستر” عملاق يحمل اسم الراحل الكبير وصورته وشذرات من سيرته، بما يترجم العنوان الرئيسي للوحة: حارس اللغة العربية، وكأنهم بذلك أرادوا أن يلزموا الزوار باجتياز هذه العتبة الضرورية، لكي ينخرطوا في المهمة التي كرس المعرض لها نفسه. فخلال دوراته الخمس والثلاثين، استطاع المعرض أن يشكل استجابة فعلية، وتفاعلية، مع قضايا الثقافة العربية القارّة والطارئة.
ولعل مراجعة سريعة للعناوين الرئيسية التي شكلت محاور الفعاليات خلال الدورات الأخيرة، والدورة الحالية، تفيد بأن الهمّ الثقافي العربي، بامتداداته المعرفية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، كان من ثوابت هذا الحدث السنوي. وأن الكتاب باعتباره عنوان المعرض، ما هو إلا الوعاء الشرعي لقضايا النقاش، وأن اللغة العربية هي مادته اللصيقة. وهي مسألة، في كل الأحوال، اتخذت في دولة الإمارات العربية المتحدة، شكل الاستراتيجية الثقافية الجامعة لمبادرات جعلت من القراءة والكتاب واللغة العربية مفردات يومية في الحياة الثقافية، وقد عبّر عنها معرض الشارقة بشعاره الدال هذا العام: "اقرأ أكثر"..
قضية العربية والعروبة، بهذا المعنى برزت في اليوم الأول من خلال الندوة المهمة التي حملت عنوان "الثقافة العربية، من أين؟ وإلى أين؟"، والتي شارك فيها وزير الثقافة اللبناني الأسبق غسان سلامة، ووزير الثقافة المصري الأسبق صابر عرب، والكاتب المصري مصطفى الفقي. المشاركون الثلاثة أجابوا عن السؤال الذي طرحه عنوان الندوة انطلاقا من رؤية واحدة تقريبًا: متانة اللغة العربية كإطار للهوية الثقافية، على الرغم من كثرة التحديات وتعدد الأيديولوجيات. وقد تركت مقاربات هؤلاء انطباعات إيجابية، وهم يفصلون الفارق بين العروبة كثقافة والعروبة كفكرة كما فعل سلامة، وضرورة الاستجابة اللغوية لمقترحات العلوم التجريبية كما شدد عرب، وأهمية وجود القيم الثقافية الجامعة بحسب رأي الفقي.
وعلى الرغم من أهمية الآراء التي عبر عنها المشاركون، لكنها لم تقترب من جوهر التحديات المفروضة على العربية والعروبة، في راهنها والمستقبل. وهو الأمر الذي يلحّ عليه معرض الشارقة للكتاب، عندما يطرح على طاولة فعالياته قضايا شائكة لا تجوز معالجتها على طريقة "ما يطلبه المستمعون". فأي حديث عن تحديات خارجية مفروضة على العربية والعروبة، سوف يستعيد عن قصد أو غير قصد تلك الأسئلة التي حاول الإجابة عنها مفكرو النهضة في مطالع القرن العشرين، وإن حملت إجابات اليوم تنويعات حداثية. فالأخطار الناهشة حاضرًا في جسد العربية والعروبة تتأتى من بين ظهرانيها. هناك افتراس متوحش للغة التي نعتز بها، تتسبب به ألسنة أبنائها بما تفرزه من رطانة ولحن. هناك تقويض متعمد للوعاء الثقافي العربي تسببت به مقترحات حداثية مثل تلك الدعوة الهمجية التي حملت عنوان "تفجير اللغة العربية". هناك زلزلة لقواعد الصرف والنحو ناتجة عن التهاون والتشدد في آن.
وكم هو مدهش، وأنت تتجول في أجنحة معرض الشارقة الدولي للكتاب، حينما تستوقفك أجنحة مختصة بعرض مقتنيات من مجلدات وكتب ومخطوطات بعضها يعود إلى مئات السنين. أوراق أصلية تحمل في طياتها أعباء قرون خلت، وهي تعرض على صفحاتها نصوصا وخرائط، خطها علماء وكتّاب عرب ومسلمون. أو كتبها رحالة ومستشرقون أجانب عن العرب والمسلمين وبلدانهم. لكن كم هو مؤلم حينما تقرأ البطاقات التعريفية، عن تلك المقتنيات النادرة، وقد كتبها نفرٌ من معاصرينا، لكنها حملت أخطاء لا تحتملها العربية، ولا يحتملها المقام الذي تعرض فيه، ولا يحتملها مهموم بقضايا العربية والعروبة. منها مثلا تعريف بمجلد يحمل عنوان "مساجد مصر" لكريزويل، ويبدأ بالتالي: مجلدين ضخمة! (كذا). أو ما ورد عن مجلد آخر بعنوان: "مشاهدات في مصر 1805 م" لماير لويجي: 48 لوحات مائية! (كذا). مثالان فاقعان عن التفجير الحقيقي للغة الضاد!
ما تتعرض له العربية ليس ناتجًا عن عيبٍ تكويني بها. تلك مسلمة يقرّها المشاركون في ندوة معرض الشارقة للكتاب. وكذلك الأمر فيما تتعرض له العروبة. إذ لا يوجد سبب كياني يدفع الرابطة القومية إلى التهالك. فالسكاكين المشحوذة تحملها أيدٍ وُلدت ونشأت تحت ظل هذا الإطار الجامع. والطعنات التي يوجهها هؤلاء، من أصحاب الوجوه الملثمة والفكر الملثم، إلى الجسد الثقافي العربي ورابطة الانتماء القومي هي أشد مضاضة من كل حملات الاقتلاع والسلخ والتشويه التي جاءت عبر البحار ومن أعماق القارات المحيطة منذ عصور. وعندما يصبح الخطر على الوجود ماثلا، من خلال دعوات التقسيم الطائفي والتفتيت الجهوي، فإن استعصاءات الاستجابة لتحديات العصر والحداثة والتطور تصبح من النوافل.
تتجول في قاعات معرض الشارقة الدولي للكتاب، وتستطلع جدول الفعاليات المتقن الذي أعده المنظمون، وكذلك قائمة الضيوف، فيستوقفك ذلك الحضور الباهي للثقافة الهندية. عشرات دور النشر، ومجموعة من الأسماء المهمة التي قرأنا عنها من دون أن تلتقي بها من قبل، تحضر كلها تحت سقف مجمع إكسبو الشارقة، لكي تنقل إلينا لمحات من ثقافة شبه القارة المترامية الأطراف، المحتشدة بالإثنيات والثقافات واللغات المحلية. لكنها تأتي كلها لكي تقدم للعربي ثقافة هندية جامعة. واجهت في السابق ما واجهته وتواجهه العربية والعروبة. لكنها انتصرت في نهاية الأمر بكيانيتها الموحدة، وبمثلها العليا الجامعة، وبطروحها المعاصرة المتسقة مع أصالتها وهويتها. وكأن منظمي معرض الشارقة للكتاب، أرادوا عن قصد أن يقدموا لكل المهمومين بالشأن الثقافي العربي، والمرتاعين من سوداوية الواقع واحتمالات المستقبل، نموذجا ناجحا وصالحا، استعصى عند جيراننا الهنود على عوامل الفرقة والافتراق.. نموذج هندي، لعل المفكرين العرب يهتمون بترجمته حينما يتصدون لمعالجة قضايا العربية والعروبة.
تصل بك الجولة داخل معرض الشارقة للكتاب، إلى جناح لافت للسفارة الأمريكية تتصدره لوحة بالحجم الطبيعي للرئيس باراك أوباما. هي لا تحاكي لوحة فاروق شوشة عند مدخل المعرض، لكنها تذكرك بها لسبب غير مفهوم. تستعرض معروضات الجناح، وأكثرها مختص بالأطفال مترجم إلى العربية عن الإنجليزية. كتيبات مصورة، لامعة، بمواضيع متنوعة، منها واحد يحمل عنوان: "يوم الانتخاب". ممتع أن تقرأ الكتيّب في أقل من دقيقتين. أطفال يستعدون لانتخاب واحد منهم لتمثيلهم في صفهم المدرسي. كل مرشح يقدم وعوده المغرية: ماكينة تمنحهم ما يريدونه من سكاكر بالمجان. أو وعد بالغاء الواجبات المنزلية. أو تطويل أيام العطلات. لكن تلميذة جديدة تقرر أمام زملائها بأنها لا تستطيع أن تعدهم بأي شيء مما سبق، بل تستطيع أن تؤكد لهم بأنها سوف تبذل قصارى جهدها.. وهي التي تفوز.
تغادر هذا الجناح وأنت تفكر في دروس هذه القصة الممتعة، وكيف يمكن للعربية والعروبة أن تستفيد منها.. ثم ما تلبث أن تنتبه بأن الحملات الانتخابية تجري هناك.. في الولايات المتحدة الأمريكية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة