يريدون منها أن تدرك بأن هويتهم 'السنية' ليست مطلقة وغير مرتبطة بالظروف السياسية، وإذا تخلت المملكة عنهم فهم حتما يتشيّعون ويصبحون مصادر بشرية متحمسة للمشروع الإيراني.
في مقابلة مع جريدة الرأي الكويتية نهاية العام الماضي قال وزير الخارجية العراقية السابق هوشيار زيبار إن “العلاقات العراقية-السعودية لم تستقر ولن تستقر وتحتاج إلى إرادة سياسية قوية من قبل الحكومة العراقية”. وإنه كان دائما يقول للمسؤولين السعوديين إن العراق يحتاج المملكة لأنه عربي. وإذا تخليتم عنه فإن إيران وتركيا ستتدخلان. لكن المسؤولين السعوديين ذكّروه مرة في اجتماع للجامعة العربية بتصريح للسيد باقر الزبيدي يصف السعوديين بأنهم “راكبو جمال يريدون أن يعلمونا الديمقراطية”. وأن زيباري شعر بإحراج حينها وقدم اعتذاره.
وأضاف الوزير السابق أن إبراهيم الجعفري قد طلب منه مفاتيح الفيلا التي كانت مخصصة للسفارة السعودية. وقام بنهب الأثاث ممّا اضطر البعثة الدبلوماسية للسكن في فندق الرشيد. وقال إنه لم يكن معقولا أن يؤجّل حيدر العبادي اللقاء بالسفير السعودي ثلاثة أشهر، حتى أن الوزير زيباري توسّط أربع مرات لدى رئيس الوزراء لمقابلته. كما لم يكن معقولا أن يضيّع العبادي فرصة ثمينة متمثلة بدعوة رسمية من العاهل السعودي لزيارة الرياض. وحين سأل زيباري رئيس الوزراء عن السبب في عدم تلبية الدعوة قال “إنه كان ينوي الذهاب إلى الرياض، لكنه يرى إمكانية الحديث مع المسؤولين السعوديين من خلال وفد وزاري يقوم بزيارة العراق”. وهذا ما حدث مؤخرا حين نزل الوزير السعودي عادل الجبير ببغداد، وهناك أنباء عن زيارة لاحقة للعبادي إلى الرياض قد تنتهي في المستقبل بزيارة وليّ العهد السعودي محمد بن نايف إلى بغداد.
العلاقة العراقية السعودية كانت مليئة بالشجون خصوصا من الجانب العراقي، فلطالما اتهم العراق جزافا المملكة بدعم الإرهاب ورفض تسهيل وصول المساعدات الإنسانية السعودية إلى المناطق العراقية المنكوبة بالحروب. ووصلت تلك العلاقات إلى مستويات مؤسفة بتحريض إيراني من خلال حملات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي المقصودة ضد الرياض. والتدخل ضد البحرين وإطلاق صواريخ “نمر النمر” على الفلوجة. لا نستطيع إهمال تاريخ من الصراع والتصعيد المذهبي بتحريض إيراني لمجرّد وعود بفتح معبر حدودي بين العراق والسعودية، وتعيين سفير سعودي جديد، واستئناف رحلات الطيران المباشر بين الرياض وبغداد.
كان العراق قد طلب من السعودية تغيير سفيرها ثامر السبهان بعد أن أغضبت تصريحاته عن تدخل إيراني في الشؤون العراقية واضطهاد للمسلمين السنة. كان السبهان أول سفير تعينه المملكة في العراق بعدما أعادت فتح سفارتها في بغداد في ديسمبر 2015 بعد انقطاع دام 25 عاما.
المهم والجوهري في زيارة الوزير عادل الجبير أنها كما صرح علنا تهدف أيضا لإرسال “رسالة تطمين إلى المكون السني بأن المملكة حريصة على أن يأخذ السنة في العراق مكانتهم الطبيعية ما بعد داعش دون إقصاء وتهميش”.
منذ عام 1990 لم يصل بغداد مسؤول سعودي بمستوى الوزير عادل الجبير. الزيارة جاءت بعد زيارة وزير الدفاع الأميركي الجنرال ماتيس إلى بغداد مباشرة. وهو صاحب المقولة الرهيبة التي فقد بسببها عمله السابق بإدارة أوباما “هناك ثلاثة أخطار تهدد السلام في الشرق الأوسط هي إيران وإيران وإيران”.
طهران غير مرتاحة حتما وسارع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الذي فقد ابتسامته المشرقة منذ صعود ترامب، إلى وصف السياسة السعودية في المنطقة بـ”الشاذة”، كما شن هجوما مزدوجا على السعودية وتركيا، واصفا إياهما بالدولتين “الضعيفتين”.
الجبير يتحدث عن المساعدة في استقرار المناطق المحررة، يعني الموضوع حول الموصل والأنبار وغيرها من الحواضر السنية المهمة بعد داعش. أعتقد تحدثنا سابقا عن انتقالة جوهرية في حال استمر الحال كما هو عليه في العراق. وتم تحرير الموصل وطرد الدواعش. لا شك سيكون البديل هو “التشيع” وهذا تحوّل دائم لصالح إيران وتغير في التوازن السياسي. قبل أيام سمعت وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو يردد وجهة نظري هذه في مؤتمر ميونخ للأمن الدولي.
المهم هو أن العالم منتبه لهذه القضية والموصل والأنبار بعد داعش بحاجة إلى تعويض “سني وعربي” والكثير من الدعم لأجل أن يبقوا على هويتهم القديمة بعد الحرب. جرت محاولة سعودية سابقة في عهد الرئيس أوباما حيث حاول السفير السبهان الوقوف بوجه الخطاب الطائفي العراقي وتمّ طرده من بغداد وتهديده بالقتل، لكن المحاولة الحالية مختلفة. إيران مرشحة للعقوبات والضربات والرئيس القوي دونالد ترامب عبّر أكثر من مرة عن عدم سروره بسيطرة إيران على العراق، رغم أن أميركا هي التي حررته من صدام حسين.
في كلمته الأخيرة أمام الكونغرس لمّح الرئيس ترامب إلى أن بلاده أنفقت 3 تريليونات من الدولارات في الشرق الأوسط بلا فائدة. إيران ابتلعت العراق وأفغانستان في النهاية. قال ترامب كان يمكن بذلك المال بناء البنية التحتية لبلاده مرتين. وإذا كانت هناك حكومة رشيدة يمكننا بذلك المال المهدور بناء الولايات المتحدة ثلاث مرات، يقول أميركا فيها اليوم 90 مليون عاطل عن العمل و40 مليون فقير مدقع يعيش على بطاقات الطعام المجاني للفقراء. إن غضب ترامب على إيران لا حدود له بسبب سياستها التي استنزفت الولايات المتحدة وأفشلتها.
الوزير الجبير بالنسبة إلى القادة العراقيين وللولايات المتحدة اليوم يعتبر قارب نجاة، فالسؤال المطروح بالبيت الأبيض إذا كان العراق حيويا وجغرافيا وروحيا واقتصاديا ومهما جدا للمشروع الإيراني، فهل حصار إيران ممكن مع الاحتفاظ بالطاقم العراقي الشيعي الحالي وبنية السلطة نفسها؟ أم الأمر يتطلب دكتاتورا سنيا جديا؟
سيكتب الجبير تقريرا بعد زيارته وبناء عليه سيتم اتخاذ قرار تاريخي في الشرق الأوسط. العراق من جانبه يفهم هذه الحقيقة، وهناك تغير في أسلوب التعاطي مع دولة بوزن السعودية. ورسميا اعتبرت وزارة الخارجية العراقية أن زيارة الوزير الجبير إلى بغداد ستعطي "زخما إيجابيا" لفتح صفحة علاقات جديدة مع الرياض، مشيرا إلى أن الزيارة كانت “إيجابية جدا”.
بدأ الإسلاميون الشيعة يفهمون حدودهم. قبل أيام هبط الجنرال ماتيس في بلادي كما يهبط الإله الإغريقي “زيوس″ على البشر الفانين. جنرال نشأ في بلد متقدم ودرس وتعلم وتربى في حضارة رائدة، وهو وزير دفاع أقوى دولة في العالم يتحدث إلى قادة بلادي التائهين في الأحقاد الطائفية والغيبيات، أولئك الذين يتذابحون على التوحيد والمعصومين والأضرحة والإسلام. حيث ترتفع رايات الله والحسين والبلاد المنكوبة على عيون الأطفال الدامعة، وقلوب الصبايا الخائفات.
ينظر الجنرال ماتيس إليهم كما ينظر إلى طلبة هاربين من المدارس. كل هذه البنادق والمدافع المستوردة وذلك التباهي بالعقائد والأناشيد، وأولئك الزعماء الروحيون الذين تبدو قوتهم مطلقة في عيون الضعفاء تتحول أمام جنرال من دولة عظيمة إلى عصف مأكول وأوهام ضارة بالحياة.
قطعة أرض صغيرة مقتطعة من إمبراطورية عثمانية جعلها لنا الإنكليز دولة وعلما وثروات بشكل سلمي، صنعنا منها ألف عصابة ومليون عقيدة، خرافات وديانات وشعوب بدائية. نظرة الجنرال ماتيس إلينا لا تختلف عن نظرة أسلافه الجنرالات البيض إلى قبائل الهنود الحمر التي كانت تتذابح فيما بينها في سبيل المراعي، وكان الضابط الانكليزي يكتب في مذكراته بأن الملل جعلهم يقتلون الوقت بقتل الهنود الحمر.
ماذا يريد سنة العراق من السعودية؟ يريدون منها أن تدرك بأن هويتهم “السنية” ليست مطلقة وغير مرتبطة بالظروف السياسية، وإذا تخلت المملكة عنهم فهم حتما يتشيّعون ويصبحون مصادر بشرية متحمسة للمشروع الإيراني. وهناك آلاف الشباب السنة تشيّعوا ويعملون في الميليشيات ويقبضون رواتبهم من فيلق بدر وغيرها. أما في بغداد فلا يوجد بيت لا يعلّق صورة لمرجع إسلامي إيراني طلبا للنجاة. الرعب شديد في العراق والمشروع الإيراني حيوي وواقعي وممتد ويقدم الأمان والمهن الثابتة وهو بحاجة إلى مواجهة جدية.
سنة العراق يريدون من السعودية القيام بدورها لا كدولة دينية بل كدولة قومية بالعمل على سحب العراق مرة أخرى إلى محيطه العربي. لا توجد دولة قادرة على ذلك وتمتلك الإمكانيات والعلاقات والمصادر سوى المملكة العربية السعودية. إن الاعتقاد الذي كان سائدا بأن الهوية السنية العراقية تستطيع المقاومة قد انتهى بعد حرب استنزاف ماكرة كلفتهم مدنهم وبيوتهم، الآن عليهم أن يختاروا طريقا للنجاة وهذا متوقف على السعودية بمقدار ما هو متعلق بإيران. هل يحتفظون بهويتهم أم يتخلّون عنها طلبا للسلامة؟
نقلا عن صحيفة العرب
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة