كنا فى صبانا ومطلع الشباب كثيرا ما نتكلم عن اليسار واليمين، ونصف هذا الشخص بأنه يسارى أو تقدمي، وآخر بأنه يمينى أو رجعي. لماذا لم يعد هذا الوصف شائعا اليوم، بل نادرا ما نسمعه؟
كنا فى صبانا ومطلع الشباب كثيرا ما نتكلم عن اليسار واليمين، ونصف هذا الشخص بأنه يسارى أو تقدمي، وآخر بأنه يمينى أو رجعي. لماذا لم يعد هذا الوصف شائعا اليوم، بل نادرا ما نسمعه؟
أعرف أن الاتحاد السوفيتى ومعه معظم دول العالم الاشتراكي، قد سقط منذ نحو ثلاثين عاما. ولكن اليسار لم يكن وصفا فقط لدول، بل كان أيضا، وفى الأساس، يطلق على أشخاص أو أحزاب أو أفكار، ويجب ألا نتوقع أن سقوط دولة أو نظام يعنى اختفاء كل أنصارهما والأفكار التى كانا يعبران عنها.
ولكن لابد أن للاختفاء أو الانزواء سببا آخر أعمق. للماركسيين قول مشهور هو أن الصراع الطبقى عندما ينتهى (وهو فى نظرهم لابد أن ينتهى آجلا أو عاجلا) سوف يؤدى إلى أن تتحول «إدارة الناس» إلى «إدارة الأشياء»، أى أن السياسة التى كان محورها تنظيم العلاقة بين الطبقات تتحول إلى أشياء أتفه بكثير، تتعلق بتسيير أمور الحياة اليومية، وهى أمور لا تثور بشأنها اختلافات سياسية بين اليسار واليمين، بل اختلافات فنية أو إدارية. ولكن هل يمكن حقا الزعم بأن الصراع الطبقى قد اختفى من الوجود ومن أى دولة من الدول؟ ألا يزال فى كل دولة أغنياء وفقراء، ولا يزال فى كل مكان من يمارس الاستغلال ومن يخضع له؟ ألا يكفى هذا لوجود مشاعر طبقية وتأجيجها ومحاولات لوضع حد لها سواء بالثورة أو عن طريق انتخابات ديمقراطية، وهذا لابد أن يفتح الباب للجدل بين اليسار واليمين؟
نعم، لا يزال هناك أغنياء وفقراء، ولكن ألا يمكن أن يكون الصراع بينهما قد انتهى أو على الأقل قلت حدته ولم يعد يثير خصومة شديدة كالتى عرفناها فى القرن الماضي، وعلى الأخص قبل العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة منه؟
هل لانزواء هذا التمييز بين اليسار واليمين علاقة بنمو الطبقة الوسطى خلال الخمسين عاما الأخيرة، فى كل مكان، حتى فى الدول الفقيرة التى عرفت دائما بالاستقطاب الحاد بين الأغنياء والفقراء؟ لقد اقترن هذا النمو فى الطبقة الوسطى بتغير مهم فى أهداف وشعارات الأحزاب السياسية، فاقترب كل من الأحزاب المحافظة والعمالية من التعبير عن مصالح هذه الطبقة الوسطي، وابتعدت هذه الأحزاب عن الصراع الحاد بين الطبقات العليا والدنيا، وكان لابد لهذا التطور أن يجعل اليمين أقل يمينية واليسار أقل يسارية، ومن ثم لم يعد إطلاق وصف اليمين أو اليسار يعبر عن شيء واضح التميز والاختلاف. ولكن قد يكون لهذه الظاهرة أسباب أخري.
فى الخمسينيات من القرن العشرين رفع بعض الكتاب شعار «اختفاء الأيديولوجيا»، وكانوا يقصدون بذلك شيئا قريبا من اختفاء الصراع أو التناقض الحاد بين الآراء والمذاهب المختلفة.
وفى الوقت نفسه ذهب الكاتب الفرنسى «ريمون آرون» إلى أن التضاد المعهود أو المزعوم بين النظامين الرأسمالى والاشتراكى ليس (أو لم يعد) بالحدة التى نتصورها، فكل منهما يحمل بذور التطور إلى الآخر، أو هو يتحول بالفعل شيئا فشيئا إلى مزيج من النظامين، وقد شهدنا بالفعل، فى العام الواقعي، تطورات فى دولة بعد أخرى من دول العالمين الرأسمالى والاشتراكي، تدل على صحة هذا الرأي، فالاتحاد السوفيتي، حتى من قبل أن تتفكك أجزاؤه، ظهرت عليه أعراض «رأسمالية»، بل وحدث هذا فى الصين أيضا، بينما تبنت دولة بعد أخرى من دول العالم الرأسمالى أفكارا اشتراكية أو ليبرالية، ومن ثم لم يفتر فقط الصراع السياسى بين العالمين، بل وضعفت أيضا درجة التمييز بينهما.
هل يمكن أن نعتبر هذا التطور تطورا حتميا أو من طبيعة الأمور؟ أى أن يعترف كل طرف بأن للرأى الآخر نصيبا من الصحة وبضرورة التأثر به والاقتباس منه؟ هل كان حتميا ومن طبيعة الأمور أن تتحول الدول ذات النظم المتطرفة أيضا إلى «دول وسطي»، تأخذ من كل مذهب بطرف؟ أم أن هذا التطور يعبر عن حقيقة مؤداها أن العقلانية لابد أن تنتصر (ولو بالتدريج)، وأن العقلانية تعادى التطرف والتضاد الكامل وترحب بالالتقاء فى منتصف الطريق؟
ربما كان هناك تفسير آخر يتعلق بنمو ظاهرة «العولمة». فالصراع الحاد، وكذلك الاختلاف فى المذاهب، لابد أن يشتد كلما زادت عزلة الأطراف بعضها عن بعض. تبادل السباب والاتهامات سهل كلما كان كل طرف قابعا فى حصنه ويلقى بالسهام من بعد، ولكن الصراع لابد أن يضعف والخلاف يعتريه الفتور إذا زاد الاتصال والاختلاط وتبين لكل طرف حاجته إلى الأطراف الأخري، واكتشف ما لدى الأطراف الأخرى من مزايا وجوانب قوة. إن هذا هو ما حدث بالضبط خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، قربت تكنولوجيا الاتصال بين الدول، وقوت حاجة كل منها للأخريات، فكان لابد لكل طرف أن يكتشف أوجه القوة فى الأطراف الأخرى وأن يتعامل معها. ربما كان للعولمة إذن دور فى انزواء ظاهرة التمييز الحاد بين اليسار واليمين يشبه أثرها فى فرق العالم الرياضية، حيث تجد اللاعب الإفريقى أو الآسيوى عضوا فى فريق دولة أوروبية، فإذا بلون البشرة لا يصلح للتمييز بين شخص وآخر، كما لا يصلح الاختلاف السياسى بين اليمين واليسار.
*نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة