كانت الكرة تخرج كالرصاصة من قدم اللاعب المندفع لتهتز لها الشباك، وينفجر الملعب باحتفالية مجنونة للجماهير المحتشدة،
كانت الكرة تخرج كالرصاصة من قدم اللاعب المندفع لتهتز لها الشباك، وينفجر الملعب باحتفالية مجنونة للجماهير المحتشدة، الأمر الغريب أن مدرب ذلك اللاعب لم يحتفل، كان متسمراً على الخط ينظر بعينين حائرتين وفمٍ مفتوح من الدهشة، اسمه زيدان وهو مدرب ريال مدريد، ومن سجّل الهدف كان مدافعه دانيلو، لكنه «كالعادة» سجّله في مرمى فريقه وأخرجه من كأس إسبانيا!
أمثال دانيلو كُثُر في عالم المؤسسات، أولئك الذين يظنون أنهم يفعلون حسناً لكنهم يخرّبون أكثر من إصلاحهم رغم صِدق نوايا أكثرهم غالباً، هي مشكلة مزعجة عندما يكون هناك موظف لا يتعلّم من أخطائه، ويسبب صداعاً مزمناً لزملائه، لكنّها تكون كارثة عندما يصبح الأخ دانيلو حاملاً لمسمّى مدير أو مسؤول، حينها لا تتوقف نكباته عند حد حتى لو كانت نواياه طيّبة؛ فالنوايا الطيبة لا يمكن أن تجعل الخطأ صواباً ولا الشمال جنوباً!
العبقرية الحقة ليست أن تُحدّد هدفاً عظيماً وتنطلق له بأسرع ما تستطيع، بل أن تعرف تفاصيل تلك المنطقة الضبابية التي لا يراها الكثيرون بين الهدف المنشود وقدرات المؤسسة وما الذي تحتاجه فعلاً.
في فيلمه الجميل 2012 كان جون كوساك يحلّق بطائرته الصغيرة هارباً من جحيم زلازل وبراكين لوس أنجليس بحثاً عن ملجأ السفن العملاقة، عندما فتح الخارطة ووجد المكان يقع في الصين التفت لرفاقه بوجهٍ مصدوم وقال: We need a bigger plane، لم يقل «ما عليكم بنلقى طريقة» لم يسارع بدق الصدر ويطلق الوعود الوردية بأنّ هذه الطائرة الصغيرة تستطيع أن تصل تلك الوجهة البعيدة فوق المحيط الهادئ، الوعود لا تملأ فراغاً والأماني لا تسدّ خللاً وكثرة «دق الصدر» لن توصلك إلا للصيدلية لشراء مرهم فولترين ليخفف وجع الضربات المتلاحقة على صدرك!
الأخ دانيلو طيّب ومحبّ لمؤسسته وأمين و«سلامتكم»، فقدراته الأخرى ضحلة لكنه لا يؤمن بذلك أو لا يريد أن يعترف لنفسه بذلك حتى لا يتهدّد منصبه، وكلما يُطلَب منه أمر لا يقول إنه لا يعرف عنه شيئاً بل جوابه الدائم «وقّعت واقف» و«ازهله» لكن تبدأ الورطة بعد ذلك عندما يكتشف أنه لا يفقه شيئاً مما يقرأه من تقارير متخصصة، وكثير منها يحتاج لتمرير سريع أو اتخاذ قرار بين خيارات معقدة بشكل طارئ فلا يجد البطل من حل لهذه المشكلة إلا بالحل السحري الذي يُتقنه هؤلاء وهو رميها في الدُرج بدعوى أنه سيتم تحويلها لمزيد من الدراسة مستقبلاً، هذا التأجيل غير المبرر تتحمّل المؤسسة تبعاته بشكل تراكمي وتدخل في مطالبات مالية أو تأخر موردين أو تعطّل خدمة مهمة أو إخلال بعقد تعاون مع مؤسسة أخرى أو ضياع فرصة كبيرة!
أخونا دانيلو يجتهد فعلاً في الظهور بمظهر المجدّد لشباب المؤسسة وبأنه من اكتشف وضعها السيئ وقد كان أحد هدايا السماء لينقذها بعد وضعها الكارثي «الذي يتوهمه أو أُوهِم به»، فيتحمس سريعاً لأولئك الباحثين عن مناصب أو ترقيات بطرقٍ ملتوية ويتبنّى أفكارهم التي تنصب دوماً على أمرٍ بعينه لا يعرفون سواه وهو «ضرورة تعديل الهيكل التنظيمي» حتى يتماشى مع الرؤية الجديدة للمؤسسة وتنوّع متطلبات العملاء واستعداداً لتحديات المستقبل وبقية الأسطوانة المملّة التي نسمعها دون توقف، رغم أن تلك المؤسسة قد قامت بإنجازات كثيرة ولسنين طويلة بذلك الهيكل ومن دون شوشرة أو استعراض عضلات أو تقارير صحفية مدفوعة الأجر، ثم نكتشف أنه، بعد كل تلك «الصدعة» و«خبص المؤسسة فوق تحت» وإرباك العمل، لم يتمخّض الموضوع إلا عن فلان وفلان وقد أصبح بعضهم مديراً تنفيذياً والآخر مدير إدارة وتوزيع غنائم كثيرة على الأحبة، لكنها غنائم تؤخذ من نفس المؤسسة المسكينة وتُسْلَب مِن مُستحقيها الفعليين من الموهوبين وخالقي الفارق لصالح مجموعة من الفاشلين والوصوليين والمستميتين للظهور والـ«شو».
من الأمور التي تثير الأخ دانيلو أيضاً المبادرات التي قام بها مَن قبله، فهو يشعر وكأنها ورم سرطاني لا بد من اجتثاثه والإتيان بمبادرات تحمل اسمه ولمساته هو وتنبع من بنات أفكاره أو «ما يتسلّفه» سراً من أفكار سكرتيره أو مجموعة تغيير الهيكل أعلاه التي لا تعدو أن تكون تحويراً للمبادرات السابقة و«قصقصة» لها تُفقِدها الفائدة المرجوة منها أو «عنتريات» لا معنى لها، لكن لا بد أن يتم التصفيق لها من الجميع حتى لا تحل عليهم الغضبة «الدانيلويّة»، ويوضع من لا يصفّق في صف مؤيدي العهد القديم، وكأنّ المؤسسة العامة أصبحت ملكية شخصية تُستنزَف طاقاتها في أمورٍ لا طائل منها!
سيسأل القارئ: ما الحل إذن، والحل لا يحتاج نصيحة ولا يبدو غامضاً، فدانيلو لم ينزل بباراشوت أو يخرج بمصباح علاء الدين، فكما أن ذلك اللاعب تم تسويقه من خلال مدير أعمال يملك قدرة على إقناع إدارة النادي العملاق فكذلك دانيلو المكاتب يملك من يستطيع تسويقه لأسباب كثيرة لكي يصل قبل أن يتم اكتشاف قدراته متأخراً، وليس من المتوقع أن يكون الحل من خلال حبّة دواء، أو منحه مزيداً من الوقت، فالوقت ثمين للغاية ويصبح باهظاً جداً عندما يرتبط بقرارات سيئة أو تعطيل قرارات مهمة، وكم استغرب ذلك الحماس والالتزام بتقييم صغار الموظفين رغم ضآلة تأثيرهم في المؤسسة من دون وجود أي تقييم منهجي لمديرها وكأنّه معصوم من الخطأ، بينما في العالم المتقدم يتم محاسبة المدير التنفيذي لأي مؤسسة من خلال مجلس الإدارة وبشكل صارم ودوري، ولا يُقبَل فيه الأعذار الباردة ولا مكان فيه للإنشائيات المعتادة ولا دق الصدر!
*نقلاً عن " البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة