أنصار أردوغان أنفسهم يساندونه لاعتبارات متضاربة
قديما أنشد الشاعر العربي المتنبي يقول: “ما كل ما يتمنى المرء يدركه، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”. لكن أحياناً قد تجري الرياح بما يدمر السفن بالكامل مهما بلغت قوّة البناء ومهارة الربان، لا سيما حين تكون حسابات الرحلة متسرعة أو متهافتة، ولا سيما- بالأحرى- حين يكون ربان القيادة قد استنزف كل طاقاته في القيادة لمسافات وعرة وطويلة. القيادة عمل منهك بلا شك؛ لذلك يحتاج المقود إلى التناوب. هذا كلام في المجاز لكنه مُعبّر إلى أبعد تقدير.
فماذا عن الدلالة؟
اقترف أردوغان خطأ جسيماً عندما توهم بأن ذلك الاعتداء الوحشي الذي مارسه حراسه الشخصيون أمام أنظاره، قد يمرّ مرور الكرام، فمباشرة بعد أن تداولت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أشرطة تظهر تفاصيل الاعتداء،لم يتأخر الكونجرس الأمريكي في تقديم مشروع قانون يطالب بمنع أردوغان من دخول الولايات المتحدة
يحتاج المجتمع الإنساني إلى السلطة. لكن ما إن توجد السلطة حتى تصبح في حد ذاتها حالة غير طبيعية. لذلك ينتهي المكوث في السلطة إلى إفساد طبيعة الإنسان.
الحل الحكيم هو التناوب على السلطة. لذلك، نفهم لِمَ يتم تحديد فترة الولاية في سنوات معدودة ومحدودة بحيث لا يمكن تخطيها مهما بلغت شعبية وكفاءة الزعيم؟ باختصار، وهذا مقصد الكلام.
نقطة قوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي استنزفها بعد أن مكث طويلاً في السلطة هي “نظرية صفر عدو”. لقد انتقل بسرعة هائلة من قائد حكيم إلى رجل متهور.
قالها روبسبيير ذات مرة، السلطة تُفسد. لذلك، تحتاج تركيا إلى طي صفحة أردوغان، لأجل تركيا أولا وأخيرا، ولأجل حزب العدالة والتنمية نفسه لمن يعنيهم هذا الأمر. هذا بصدد خلاصة الكلام. لكن ما الحكاية؟
يبدو أنّ أردوغان لم يعد من زيارته للولايات المتحدة الأميركية في أواسط مايو الفارط خاوي الوفاض وحسب (لا سيما الملفين الأساسيين، تسليح الأكراد وتسليم الداعية فتح الله غولن) لكنه عاد بخسائر باهظة. فقد وضعه حراسه الشخصيون، في موقف يشبه الفضيحة الدبلوماسية بعد ملاحقتهم من طرف القضاء الأميركي بتهم لا تليق بحراس رئيس دولة محترمة في زيارة محترمة لبلد محترم. ماذا فعلوا؟ اعتدوا بالضرب والرفس والركل، أمام أنظاره، على متظاهرين أتراك كانوا يحتجون بنحو سلمي على الزيارة قرب مقر السفارة التركية بواشنطن، ما تسبب في جروح بليغة لبعض المحتجين. بل طال اعتداؤهم أيضا أحد ضباط الشرطة الأميركية.
اقترف أردوغان خطأ جسيماً عندما توهم بأن ذلك الاعتداء الوحشي الذي مارسه حراسه الشخصيون أمام أنظاره، قد يمرّ مرور الكرام، طالما أنه في مهمة رسمية. فمباشرة بعد أن تداولت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أشرطة تظهر تفاصيل الاعتداء، لم يتأخر الكونغرس الأميركي في تقديم مشروع قانون- صادق عليه بالإجماع- يطالب بمنع أردوغان من دخول الولايات المتحدة، ويطالب بتسليم حراسه الشخصيين إلى العدالة الأميركية.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل بعد مضي أسابيع من البحث والتقصي قرر المدعي العام في واشنطن توجيه التهمة رسميا إلى تسعة عشر شخصا، من بينهم خمسة عشر من حراس الرئيس التركي بتهمة الاعتداء العنيف على متظاهرين أتراك، وعلى قوات حفظ الأمن الأميركي، أمام مقر البعثة التركية بواشنطن. لقد نسي أردوغان في تلك اللحظة بأنه في بلاد العم سام.
اليوم، داخل تركيا لا يمكنك أن تتحدث إلى أعضاء ناشطين في حزب العدالة والتنمية دون أن تسمع منهم آراء متضاربة حول الإسلام والعلمانية والديمقراطية وغيرها. هذا ما حدث لي بالتمام. بل حتى أنصار أردوغان أنفسهم يساندونه لاعتبارات متضاربة: القومية التركية ضد التمرد الكردي، العلمانية التركية ضد تمرد فتح الله غولن، والإسلام التركي العثماني السلطاني ضد كل شيء وضد أي شيء، أو ضد لا شيء. أنصار أردوغان في الداخل التركي ليسوا على ملة واحدة.
بعضهم يحلم باليوم الذي سيشهر فيه أردوغان سيف الشريعة، وبعضهم يطالبه بالاستغناء عن ورقة الإخوان بعد أن أوشكت دائرة شعبيته أن تنحصر في إطار أيديولوجي ضيق لا يخدم مصلحته، وبعضهم الآخر يساهم في جهود مقاومة تحول أردوغان إلى دكتاتور جديد دون أن يسحب منه كامل ولائه. كل هذا بمعزل عن أوهام شعوبنا “اليتيمة” التي لا ترى في أردوغان سوى زعيم روحي مطلق الأبوّة في المنشط والمكره، على طريقة العشائر البدائية.
لكن بعيداً عن أساطير شعوبنا التائهة، فإن الأتراك لا يرون في أردوغان سوى رجل دولة يخطئ ويصيب، وأن شعبيته تزداد وتنقص بحسب الأحوال، وأن حساباته غير مضمونة في آخر الحساب، وأنه واقف الآن على مفترق الطرق، وأن خطواته القادمة ستحدد المواقف النهائية للكثيرين. والكثيرون مترددون، سواء في الشارع أم داخل دواليب الدولة.
وإذا كانت خطيئة أردوغان أنه حاول أن يستغل الإسلام السياسي، فلا ننسى أن كل مشاريع الهيمنة على الشرق الأوسط حاولت أن تستغل الإسلام السياسي. هنا لم يأت أردوغان بأي جديد، عدا أنه رجل دولة استنزف نقطة قوته بالكامل. ونقطة قوته كانت “نظرية صفر عدو” داخلياً وخارجياً.
نقلا عن "العرب اللندنية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة