الشراشف البيضاء.. لون النجاة من الموت أم لون الكفن؟
في عام 1978، وفي خضم السبعينيات، تعرض الشاعر نزار قباني لأزمة قلبية أدخلته المستشفى.
لم يكن مجرد شاعر خمسيني يعاني من أمراض جسدية، بل كان أيضًا مدخنًا نهمًا، وطفلًا يحمل في قلبه إرثًا من المعاناة الصحية.
وبين جدران المستشفى، وبين مشاعر الألم الجسدي، كان نزار يعيش عذابًا آخر؛ عذابًا يتفجر فقط في نفوس المبدعين والحساسين.
لم يكن عذابه مرتبطًا فقط بالمرض، بل بما سماه "عذاب اللون الأبيض"؛ هذا اللون الذي يحيط به من كل جانب، والذي يبث في روحه ثباتًا خانقًا يكاد يدفعه للجنون.
بعد أن منع الأطباء ابنته من زيارته، انغمس نزار في عزلته، واستخدم الحروف لتخفيف عبء قلبه المثقل. فكتب قصيدته الشهيرة "يوميات مريض ممنوع من الكتابة"، والتي جاءت كنافذة للتعبير عن العذابات النفسية التي كانت تلتف حوله كحبلٍ من البياض، ونشرت القصيدة في ديوانه "أحبك أحبك والبقية تأتي" الصادر في العام نفسه.
في هذه القصيدة، خاطب نزار ابنته الصغيرة بحزن وألم، فكتب:
"ممنوعةٌ أنت من الدخول، يا حبيبتي، عليه
ممنوعةٌ أن تلمسي الشراشف البيضاء، أو أصابعي الثلجية
ممنوعةٌ أن تجلسي.. أو تهمسي.. أو تتركي يديك في يديه
ممنوعةٌ أن تحملي من بيتنا في الشام..
سربًا من الحمام، أو فلةً.. أو وردةً جوريه".
كان نزار يصور ابنته في قصيدته كرمز للحياة واللون في وجه بياض المستشفى القاسي، ويطلب منها أن تحمل إليه لمسات من الدفء والحرية التي افتقدها في تلك الجدران العقيمة. أراد أن تنقذه من هذا السجن الأبيض، الذي يغلف كل شيء حوله ويجعل العالم باهتًا بلا روح.
وفي استغاثة شاعرية، طلب نزار من ابنته أن تملأ زيارته بكل الألوان:
"إن جئتني زائرةً
فحاولي أن تلبسي العقود، والخواتم الغريبة الأحجار
وحاولي أن تلبسي الغابات والأشجار..
فإنني سئمت من دوائر الكلس.. ومن دوائر الحوار".
لم يكن نزار وحده من عانى من سجن البياض، فالشاعر أمل دنقل أيضًا شارك هذا العذاب وهو يرقد على فراش المرض في غرفته الشهيرة رقم 8، حيث كتب قصيدته "ضد من" في ديوانه الأخير. تحدث دنقل عن هذا البياض الذي أحاط به وقال:
"في غُرَفِ العمليات
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ
لونُ المعاطفِ أبيض
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ...
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
فلماذا إذا متُّ.. يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..
بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟".
في عام 1999، أتى الفنان العراقي كاظم الساهر ليعيد إحياء قصيدة "يوميات مريض ممنوع من الكتابة" بصوتٍ يحمل بين طياته كل أحزان نزار، ويصدرها في أغنية بعنوان "ممنوعة أنتِ".
وبذلك، خُلِّدت في ذاكرة الأجيال قصيدة نزار وعذابه، وشارك الساهر العالم هذا الحزن العميق لعذاب اللون الأبيض الذي طالما أرهق قلوب المبدعين.
aXA6IDE4LjE5MS4yMTUuMzAg جزيرة ام اند امز