مما لا شك فيه أن مظاهرات الشباب كشفت الوجه القبيح الذي كانت تختفي وراءه الطبقة السياسية الحاكمة بأحزابها
في عام 2009 قلت في مقابلة نُشرت على صفحات موقع "إيلاف" إن العراق جاء بمخلفات الماضي وفرضها على المجتمع العراقي، فقامت الدنيا علينا ولم تقعد. قلنا إن الأحزاب الدينية في العراق جاءت بكل الخرافات الممكنة والمتخيلة لكي تحكم شعباً مستنيراً مثل الشعب العراقي وصلت فيه الأميّة إلى درجة الصفر حسب اعتراف اليونسكو قبل الاحتلال، وقد قطعت المرأة أشواطاً كبيرة في التقدم، بينما تقهقرت أحوالها ووصلت إلى أدنى مستوى لها من الحقوق المكتسبة في الوقت الحاضر.
سيكون موعد المظاهرات المقبلة في الـ25 من الشهر الجاري -كما أعلنته تنسيقية مظاهرات الشباب- هادراً في جميع أنحاء العراق، مستفيداً من تجربة المظاهرات الأولى، ووعده أنها ستبقى سلمية من أجل فضح الأحزاب الدينية التي تاجرت بهم لسنوات طويلة
كانت الأحزاب والمليشيات تتستّر وراء التدين من أجل الاستمرار طيلة عقد ونصف من الزمن، لكن شباب العراق في انتفاضته الأخيرة استطاع أن يفضح الغطاء المزيف التي تعمل من خلاله، لقد خرجت المظاهرات بطريقة أرعبت الطبقة الحاكمة لأسباب متعددة ليس أولها سلميتها وشبابيتها، بل وطنيتها المخلصة والخارجة على جميع الأحزاب الطائفية، إن إضفاء هالة القداسة على أفعال البشر لهي من أساليب القرون الوسطى التي ولى عهدها، لكنها جاءت وركبت ظهور الناس؛ لأن الطبقة الحاكمة التي تم استيرادها من الخارج لم تكن لهم أية جماهير يستندون عليها، لذلك ركبوا موجة التديّن من أجل الحكم، ولو استطاعت محاكم التفتيش أن تقنع الناس بقضيتها لكانت لا تزال مستمرة حتى الوقت الحاضر، لكن التاريخ لا يتطور بمشيئة الأفراد، فلفظ حكمه على تلك الثلة الحاكمة باسم الدين ولعنها إلى الأبد؛ لأنها كانت تمارس القداسة المزيفة لا الحقيقية، وتطورت أوروبا بعد أن فصلت الدين عن السياسة.
إذا كانت الأحزاب المتطرفة والتابعة إلى ولاية الفقيه مؤمنة بالإسلام، فهل الإسلام يبيح قتل العزل من الشباب لأنهم لم يفعلوا شيئاً سوى رفع العلم العراقي والمطالبة بحقوقهم المشروعة التي يجب أن تؤمنها لهم الدولة؟
مما لا شك فيه أن مظاهرات الشباب كشفت الوجه القبيح الذي كانت تختفي وراءه الطبقة السياسية الحاكمة بأحزابها، ما تُسمى بالرئاسات الثلاث تأكل نسبة 43 في المئة من الميزانية الفلكية، وما يتبقى تتقاسمه الأحزاب الدينية، ويبقى الشعب بلا أي مورد.
إن التضليل والخداع الذي مارسته الطبقة الحاكمة لم يؤثر على الشباب الذي ولد مع الاحتلال في 2003، فهو ناصع البياض، لم يتأثر بأي نظام، ولم يعد قادراً على تحمّل سماع أسطوانة الوعود المشروخة. وقد توهم النظام بأنه نفخ في هذا الجيل الشاب من روحه الطائفية، لكن هذه الحسابات كانت خاوية، لقد أسقط الشباب بحراكهم الوطني هذه الأوهام، وزعزع بمظاهرات سلمية تسلط إيران ومليشياتها على الدولة العراقية. وفي كل يوم تزداد الفجوة بين النظام والشباب، ومعها يفتح الجحيم أبوابه عليهم، أصبح التغيير في العراق حقيقة ملموسة، إذ فاجأ الشباب مختلف النخب العراقية بوعيهم ووطنيتهم وتفانيهم، وفضحوا سلوك النظام في مظاهراتهم الأخيرة.
سيكون موعد المظاهرات المقبلة في الـ25 من الشهر الجاري -كما أعلنته تنسيقية مظاهرات الشباب- هادراً في جميع أنحاء العراق، مستفيداً من تجربة المظاهرات الأولى، ووعده أنها ستبقى سلمية من أجل فضح الأحزاب الدينية التي تاجرت بهم لسنوات طويلة، وسيضع الشباب نقطة النهاية، ولا ينفع القمع مع المطالب المشروعة؛ حيث عجزت الدولة من طمأنة الحاجيات الأساسية عندما كانت خزائنها مليئة، فما الذي يمكنها أن تفعله الآن مع اقتصادها المنهار؟
إذا كانت المظاهرات الأولى مطلبية فهي تُعد كذلك، بل أخذت مساراً آخر، هو المطالبة بتغيير النظام، بل برحيله بسبب جرائمه وفقدان شرعيته، ولا يمكن أن تستمر القبضة الحديدية إلى ما لا نهاية، حتى الاحتلال الأمريكي لم يتحمل الاستمرار والبقاء في واقع معقد وملتهب كالواقع العراقي.
إن انتفاضة تشرين أزالت الثقة بين الشعب والنظام السياسي، وهو أسوأ ما يمكن أن يحدث. وهنا نتساءل: هل تتغيّر بوصلة العراق بعد انتفاضة تشرين؟
نقول نعم، بل كلياً، ولم يعد أي معنى أو مصداقية لمن تسبب بمقتل أكثر من 311 شاباً بدم بارد، إضافة إلى الجرحى والمعتقلين، لم يحدث ربع ذلك في السودان، وأدى إلى سقوط نظامه، بينما لا يزال في العراق من يتشبث بالحكم رغم أنف الشعب!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة