الغزو التركي للديار السورية سوف يكون رمزا لمرحلة "الحروب الإقليمية" في العنف الشرق الأوسطي خلال عقد واحد من السنوات
الغزو التركي للديار السورية سوف يكون رمزا لمرحلة "الحروب الإقليمية" في العنف الشرق الأوسطي خلال عقد واحد من السنوات، بعد مرحلة "العنف الأهلي"، ثم مرحلة "العنف الديني"، كما سوف نفصل بعد قليل.
فخلال العام الجاري وحده أطلقت إيران أو حلفاؤها من الحوثيين في اليمن أو حزب الله في لبنان أو قوات الحشد الشعبي في العراق عمليات عسكرية بالصواريخ والطائرات المسيرة لكي تضرب أهدافا عسكرية واقتصادية ومدنية في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومياه الخليج العربي.
وسط ذلك كله تظهر أصابع وأشباح نظام دولي جديد ينسحب فيه الأمريكيون، ويتقدم فيه الروس بجرأة إلى الشرق الأوسط، أما الصين فإنها تتحرك بخجل، فما يهمها أن تستثمر ويستثمر فيها، ولديها خطة للطريق والحزام، والمهم بالنسبة لها أن يستمر النفط متدفقا إلى بكين
وبالمقابل ضُربت ناقلة بترول إيرانية في البحر الأحمر، وقامت إسرائيل بضرب أهداف إيرانية أو حليفة لإيران في العراق وسوريا ولبنان وعن طريق الصواريخ والطائرات المسيرة أيضا، وعلى الرغم من أن الضربات العسكرية جرت تحت شعار عدم الرغبة في الحرب فإن الدول هي التي قامت بها أو حرضت وكلاءها من المليشيات على القيام بها، وكانت موجهة إزاء دول أخرى في المنطقة.
وكان هذا الأمر مختلفا عن مرحلتين سابقتين من العنف الشديد جرت في المنطقة، كان أولها في مطلع العقد وعنوانها مرحلة "الربيع العربي" التي جرت نتيجة تحركات جماهيرية كثيفة -مليونية كما قيل وقتها- لكي تعلن أن ما كان سائدا سياسيا أو اقتصاديا خلال العقود السابقة لم يعد مقبولا، وأنه آن الأوان لكي يبدأ عصر آخر جديد لم يكن أحد يعرف له تعريفا أو حدودا أو أفقا، كان في الحقيقة جديدا وكفى، فلا عرف "الثوار له نظاما للحكم، ولا شكلا للاقتصاد، ولا طريقة لإدارة القضايا الاجتماعية، وباختصار لم يكن أحد يعرف طبيعة الدولة التي يريدون لها أن تحل محل الدولة التي يريدون هدمها.
أكثر من ذلك كانت المرحلة كلها بلا قيادة، وكان هناك كثرة من جنرالات القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية بلا جنود تتبعهم، تفرق شمل الربيع ولم يبق منه إلا موجة عنف وحروب أهلية وتحالفات وائتلافات ليس لها أول ولا آخر.
هذا الغموض فتح الباب لمرحلة ثانية من العنف الذي قادته جماعات أصولية متنوعة بدأت بجماعة الإخوان المسلمين وانتهت بجماعة داعش، وبينهما كانت هناك جماعات أخرى وتآلفات وتحالفات بينها حملت أسماء مختلفة ذات طبيعية دينية، ولكنها اتفقت على القتل بلا رحمة باسم الإسلام "الصحيح" أو "الحقيقي".
وما بين مرحلة العنف الأولى والثانية كانت الدولة العربية في العموم في حال تآكل، وصارت في قول مهم "شبه دولة"، وجرى الإعلان أن "الفواعل من غير الدولة" (هي تنظيمات عابرة للدولة لا يجمع جماعتها إلا أيديولوجية متطرفة) بات لها السيادة حتى أنها خلقت "دولة الخلافة الإسلامية" على أراض تجمع ما بين العراق وسوريا، ومن الأولى كانت مدينة "الموصل" العراقية رمزا لها، ومدينة "الرقة" السورية عاصمة.
بلغ العنف مبلغه في منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وكان الثمن من أرواح البشر وجرحاهم هائلا، ومعهم سقطت مدن ونهبت حضارات قديمة. ومع كل ذلك جرت ثلاث ظواهر مهمة؛ التدخل الأجنبي الروسي والأمريكي وبقية حلفاء الأطلنطي من بريطانيا وفرنسا ودول أخرى، وهزيمة دولة الخلافة وقبلها الثورة على حكم الإخوان في مصر وذهابهم إلى غير رجعة إلى تركيا وبريطانيا ودول أخرى، وعودة الدولة العربية مرة أخرى رغم هشاشتها إلى الوجود، ومعها عادت الجغرافيا السياسية كما هو الحال في الوضع الدولي والإقليمي.
عادت الخلافات التاريخية بين الإيرانيين والعرب، والأتراك والعرب، والإسرائيليين والعرب أيضا، في المرحلة الأولى كان العنف بين "الشعب" و"السلطة" في الدولة، وفي المرحلة الثانية كان العنف بين تنظيمات من غير الدولة والدول، وفي المرحلة الثالثة بات العنف سواء كان حربا أم أزمات بين الدول، وعلى أراض وسيادة وثروات ماء ونفط.
الحرب التركية الجارية بدأت داخل تركيا، حيث يوجد ١٥ مليون كردي تخشى أنقرة أن يتبعوا أكراد العراق الذين حصلوا على حكم ذاتي وفشلوا في الحصول على دولة، أو يتبعوا أكراد سوريا الذين يسعون إلى دولة أو على الأقل حكم ذاتي، وفي الحالتين فإن الأصداء سوف تكون مسموعة في الفضاء السياسي التركي.
هدف الحرب أن ينجح حكم الإخوان المسلمين في تركيا في القضاء في ضربة عسكرية واحدة على حاجة الأكراد الأتراك إلى الدولة وإلى الأبد، في ذلك لم يكن "أردوغان" يختلف عن سابقيه من القادة الذين ظنوا أنهم بإمكانهم عن طريق الحرب أن يحققوا ما فشلوا في تحقيقه عن طريق السياسة، ولم يتعلم الرجل الكثير من تجارب الدول التي تقول إنه من السهل الدخول في حرب، ولكن من الصعب الخروج منها، وفي الشرق الأوسط فإن ذلك استمر لعقود في أفغانستان والعراق واليمن وليبيا.
"لعبة الأمم" الشهيرة هي في حقيقتها لعبة الدول، ولم تبدأ تركيا حربها دون الانسحاب الأمريكي من الشمال السوري، والمرجح أيضا أنها لم تبدأ أيضا دون اتفاق مع روسيا التي تلعب أوراقها بحرص شديد؛ حيث تدخل تركيا إلى سوريا دون صدام، بينما تمتد السيادة السورية إلى المنطقة الكردية والحدود السورية التركية.
الكل من دول العالم يعترض على الحرب، ولكن أمريكا تفرض عقوبات على أفراد ليس لهم لا أملاك ولا حسابات بنكية في أمريكا، وإيران تعترض أيضا ولكنه اعتراض يرتبط بمدى سلامة نظام بشار الأسد وما يحصل عليه ما قد يفقده، وفي كل الأحوال يبقى النفوذ الإيراني دون مساس، وحتى إسرائيل تعترض طالما أن إيران مستمرة الوجود في دمشق والضاحية الغربية في بيروت.
اللعبة جارية بين الدول حربا وسلاما، وعلى المائدة مشروعات للإصلاح في مصر والسعودية، ومشروعات للأمن الإقليمي من مصر وروسيا، وفي كل الأحوال.. وبالنسبة للدول فإن هناك فرصا ومخاطر، والحالة فيها الكثير من السيولة، فحلفاء "الأستانة" يبقون الخيوط قائمة بينما يجد الأكراد أحضانهم في الدولة السورية مرة أخرى.
إنها أيام عجيبة وأحداث أعجب جرت في عقد واحد من السنين، ولكنها على اختلافها ليست منبتة الصلة عن بعضها البعض، فمرحلة الربيع العربي أو العنف الأهلي لم تختفِ كلية، ولا تزال تطل برأسها كما جرى في الجزائر والسودان والعراق مؤخرا، ومرحلة العنف الديني والمنظمات العابرة للدول يبدو أن بعثها من جديد سوف يكون على يد تركيا التي عند غزوها لسوريا تحرر عشرات الألوف من الداعشيين لكي يبدؤوا "جهادا" جديدا وإرهابا آخر في المنطقة أو خارجها، أما مرحلة الدول فإنها تعيدنا إلى ما كان عليه الشرق الأوسط طوال القرن العشرين من تنافس بارد وساخن، وصراعات مزمنة تسترجع صراعات قديمة.
ووسط ذلك كله تظهر أصابع وأشباح نظام دولي جديد ينسحب فيه الأمريكيون، ويتقدم فيه الروس بجرأة إلى الشرق الأوسط، أما الصين فإنها تتحرك بخجل، فما يهمها أن تستثمر ويستثمر فيها، ولديها خطة للطريق والحزام، والمهم بالنسبة لها أن يستمر النفط متدفقا إلى بكين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة