سنوات طويلة من السجال السياسي والدبلوماسي والاقتصادي بل وحتى العسكري حكمت السياسة التركية على طول أمد الصراع
سنوات طويلة من السجال السياسي والدبلوماسي والاقتصادي بل وحتى العسكري حكمت السياسة التركية على طول أمد الصراع، فبعد أخذ ورد طويل ومماحكات دبلوماسية دامت طويلا من أجل المنطقة الآمنة التي يتشدق بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، صباح مساء، بدأ الرجل عمليته العسكرية المسماة "نبع السلام" من دون الأخذ بالتحذيرات الأمريكية، وكذلك الدول الأوروبية على محمل الجد.
معارضة واشنطن لمشروع المنطقة الآمنة لم يتبدل، ولكن الذي تغير هو الإدارة الأمريكية بوصول دونالد ترامب البيت الأبيض، وثمة فرق كبير في طريقة تعاطي ترامب مع تركيا أردوغان، فالرئيس الجمهوري خالف سلفه الديمقراطي باراك أوباما بملفات كثيرة، ولعلّ العلاقة مع تركيا من أبرزها، ويكمن ذلك في عدم تقدير أهمية التحالف الأمريكي التركي القديم، خاصة الشراكة في حلف شمال الأطلسي الناتو.
كل ذلك يجعل المؤشرات التحليلية والقراءة الواقعية للعملية التركية على الشمال السوري ليست إلا مأزقاً سيصعب على أنقرة الخلاص منه بسهولة وكأنها دُفعت إلى مستنقع كحصيلة لسياسات العدالة والتنمية التي تقلبت يمنى ويسرى حتى بات الجميع يريد لها الانشغال بحك جلدها والوقوع بما رُسم للرئيس التركي حين حذره ظاهريا ترامب بعدم التعنت وألا يكون أحمق.
خلافا للعادة وبنبرة أكثر حدة بدأت إدارة ترامب التضييق أكثر على الحكومة التركية نتيجة عدم إيقافها الهجوم على قوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري، فسرعة تقدم الآلة العسكرية التركية في الأراضي السورية أسال لعاب أردوغان نحو مزيد من التوغل حتى خارج الحدود المتفق عليها مع واشنطن، وهذا ما استنفر القادة العسكريين الأمريكيين وأعضاء في الكونجرس للتأثير في قرار رئيسهم نحو مزيد من الضغوط على الرئيس التركي، وهذا ما تمّ لهم بالفعل.
على ما يبدو أن رياح عملية "نبع السلام" لم تمض بما تشتهي السفن الأردوغانية، مما يدل على أن السلطان اليوم ربما يكون على موعد مع فيتنام جديدة، وذلك لما يكتنفه من مصاعب سياسية وعسكرية واقتصادية.
على الصعيد السياسي، تشكل العمليات التي تنفذها "تركيا" اليوم في الشمال السوري تحدياً سياسياً كبيراً كونها تجري في بلد يعيش أوضاعا محكومة بالصراع الداخلي، مما يجعل الأمور معقدة، لا سيما أنها تأتي في إطار تحرك فردي من قبل الجانب التركي المستند على تفاهمات سياسية ضمنية مع القوى العظمى على شكل العمليات والخطوط العريضة لأهدافها، مما يضع "أنقرة" أمام تحديات قانونية ودولية ترجمت بالرفض القاطع للعمليات من أغلب دول العالم، وخاصة الدول الأوروبية والعالم العربي، كما أن الجانب الأمريكي الذي وافق أردوغان في الأمس على تنفيذ العمليات هو ذاته يحذره من مغبتها اليوم بلهجة التهديد والوعيد تارة والتحذير تارة أخرى، مما يفقد هذه العمليات الغطاء السياسي الدولي، ويعزل تركيا دوليا ويؤثر في سلامة نسيجها الاجتماعي المكون في جزء كبير منه من الكُرد، بالإضافة إلى إنهاك البلاد بصراعات هي في غنى عنها.
على الصعيد العسكري، من أكبر التحديات التي تواجه الجيوش النظامية هي حرب العصابات، والتي عانى منها الجيش التركي لعقود طويلة دون جدوى في القضاء عليها، وهو الجيش الذي قاتل الأحزاب الكردية الانفصالية في جنوب شرق تركيا وجبالها المحاذية للعراق لعقود من الزمن، وذلك بسبب تكتيكاتها القائمة على الضرب والعودة إلى المكامن من جهة، ولكونها ذات عقيدة قتالية قائمة على التضحية لتحقيق الأهداف التي تسلحت من أجلها من جهة أخرى على عكس التكتيك الذي اتبعه أردوغان في هذه العملية بالاعتماد على فصائل سورية محددة من الجيش الوطني المعارض الذي من الممكن في أي لحظة أن ينقلب عن الأهداف التركية لأنه محكوم بالمصلحة السياسية والعسكرية لا العقيدة القتالية، هذا على المستوى الميداني، أما على المستوى العسكري الاستراتيجي بدأت الأوراق المرجوة تسقط واحدة تلو الأخرى على الرغم من أن العملية لم يزد عمرها في العرف العسكري على الساعات القليلة، ولا سيما على مستوى تحقيق الهدف العريض منها في إقامة المنطقة الآمنة على طول الحدود السورية، إذ لم يتمكن الجيش التركي والفصائل التي يدعمها من تحقيق السيطرة التامة على بلدة أو بلدتين على الحدود حتى بدأت المنطقة المرجوة تتقطع بسبب التدخل الروسي والحكومي بعد تفاهمات مع "قسد" التي سارعت إلى التفاهم معهم بمجرد إعلان واشنطن الانسحاب من شمال سوريا، لتدخل القوات السورية والروسية مناطق عدة لتحييدها عن التقدم التركي، مثل "منبج" في ريف حلب و"عين عيسى" في ريف الرقة و"القامشلي" وغيرها، مما يجعل المنطقة الآمنة المزعومة تفقد ترابطها واتصالها، وبالتالي تفقد قيمتها لتنهار وتوأد قبل أن تولد.
على الصعيد الاقتصادي، من المؤكد أن الحروب مقصلة الاقتصاد وحتى المنتصر في الحرب يدفع ضريبة اقتصادية باهظة، والحكمة السياسية تكمن في درء الحرب لا في إشعالها، ولكن أحلام أردوغان أبت إلا أن تشعلها في ظل أوضاع اقتصادية تركية سيئة، ظناً منه أن هذه العملية ستكون خاطفة وسريعة، ولكن الأمر ليس كذلك في ظل التعقيدات السياسية والعسكرية التي تحيط بها، فقد عاجلتها "واشنطن" بفرض عقوبات جديدة على اقتصاد "أنقرة" فور إعلان الأخيرة بدء عملية "نبع السلام"، بالإضافة إلى تعليق الكثير من الشركات الاقتصادية والعسكرية الأوروبية نشاطاتها مع "أنقرة"، للتعبير عن رفضها للعملية، كما يضاف إلى ذلك كله انعدام الأمن على المدن والشريط الحدودي التركي الذي يجعل جزءاً لا يستهان به من المدن التركية راكدة على المستويات الاستثمارية والتجارية، عدا التكاليف الباهظة للعملية إذا ما طالت، لما يكتنفها من تسليح فصائل غير تركية وبأعداد كبيرة والالتزام بدفع مستلزماتها ورواتبها، وتحمل تبعات نتائج العملية العسكرية.
كل ذلك يجعل المؤشرات التحليلية والقراءة الواقعية للعملية التركية على الشمال السوري ليست إلا مأزقاً سيصعب على أنقرة الخلاص منه بسهولة، وكأنها دُفعت إلى مستنقع كحصيلة لسياسات العدالة والتنمية التي تقلبت يمنى ويسرى حتى بات الجميع يريد لها الانشغال بحك جلدها والوقوع بما رُسم للرئيس التركي حين حذره ظاهريا ترامب بعدم التعنت، وألا يكون أحمق، وهذا ما لم يكن، فالرجل غاص حتى أخمص قدميه وسيدفع ثمنا كبيرا للجميع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة