التراجعات والتناقضات ليست جديدة على الرئيس التركي، فهو يدرك أن الجماهير لن تهتم بتداعيات الفعل كاهتمامها بالفعل نفسه
الكذب أداة سياسية تستخدمها بعض الأنظمة الضعيفة من أجل خداع شعوبها وأتباعها، الذين يصدقون أي إشاعة من أجل تثبيت سرديتها عن الأشخاص والأحداث التي يؤيدونها من غير تمحيص ولا تدقيق، لا سيما إن كان الجهل سيد العقول.
تلك كانت بعض التناقضات والزيف المستمر الذي يستند إليه النظام التركي للترويج لنفسه، أعادتها إلى الذاكرة رسالة قاسية بعثها الرئيس الأمريكي لرجب طيب أردوغان، يقول فيها "لا تكن أحمق ولا تخاطر بأن تذكر كشيطان، وإلا فإن اقتصاد بلادك سيدمر"، وفي انتظار الرد التركي الذي يبدو أنه لن يأتي أبداً
بامتياز يبرع النظام التركي بقيادة رجب طيب أردوغان في الخداع والكذب من أجل ترسيخ قناعات واهية، لا سيما لدى بعض الجماهير العربية والإسلامية التي تغلب عليها العاطفة بعيداً عن التفكير النقدي المتأني، وفي ذلك شواهد لا يمكن لمقال أن يحويها جميعها، لكن يمكن الإشارة إلى بعضها، ففي السنوات العشر الأخيرة ناقض الرئيس التركي نفسه عشرات المرات.
في القضية الفلسطينية هاجم إسرائيل بالكلمات ثم وقّع معها اتفاقيات عسكرية واقتصادية مجحفة للطرف التركي، لا يستفيد منها إلا الجانب الإسرائيلي، ووعد بإغلاق السفارة الإسرائيلية في أنقرة في حال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ولم يفعل ذلك بالتأكيد.
الخدعة الأخرى التي يروج لها النظام التركي كثيراً هي دعمه المسلمين المستضعفين حول العالم، وهذه أسخف من أن يصدقها عاقل، والحقيقة أن أردوغان "يتاجر" بجراح المسلمين ابتداء من أقلية الإيغور التي ادعى نصرتهم، فيما أكد بعد أن التقى نظيره الصيني أنهم "يعيشون بسعادة بالغة"، إلى الأقليات المسلمة في أوروبا التي يضغط بهم على حكوماتهم متى استدعت الحاجة إلى ذلك، بالإضافة إلى المتاجرة بدماء اللاجئين واستلام 6 مليارات دولار في عام 2016 من دول الاتحاد الأوروبي، بعد أن هدد بإرسال اللاجئين لهم، إلى استغلاله قضية شهداء مسجد كرايس تشيرش في نيوزيلندا انتخابياً بمهاجمة أستراليا، ليتعذر لاحقاً بشكل غير مباشر.
ثالث تلك الخدع، ادعاء دعم الديمقراطيات في الدول العربية، فيما يسجن ويلاحق المعارضين في بلاده، بل يعدل الدستور للسيطرة والبقاء الدائم، وتحتل تركيا المرتبة الثانية في العالم من حيث عدد المعتقلين، حيث يقبع في السجون التركية أكثر من ربع مليون موقوف ومحكوم، بعد أن ارتفعت نسبة المعتقلين منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بنسبة 315%، كما يقبع في السجون نواب برلمان ورؤساء بلديات وزعماء سياسيون وعشرات الصحفيين؛ حيث تعتبر تركيا أكثر الدول في العالم اعتقالاً للصحفيين، فأي ديمقراطية وأي حرية؟!
هذه التراجعات والتناقضات ليست جديدة على الرئيس التركي، فهو يدرك أن الجماهير لن تهتم بتداعيات الفعل كاهتمامها بالفعل نفسه، ولن يكون للنفي أو كشف الكذب أي وقع يذكر، ويلاحظ في سيرته العديد من المواقف التي تراجع عنها بشكل واهِن، ابتداء من الاعتذار عن إسقاط طائرة روسية في 2015، إلى إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برونسون، بعد أن تحدى الولايات المتحدة بأنه لن يفرج عنه أبداً.
الكذبة الأخرى هي تلك المتعلقة بالاقتصاد التركي، فالرئيس وأجهزته تروج دائماً أن الاقتصاد متين، وأن حزب العدالة والتنمية نقل البلاد من الحضيض إلى أعلى المراتب، فيما تعطي تقارير اقتصادية عن مؤسسات دولية نظرة سلبية عن واقع ومستقبل الاقتصاد التركي، فضلا عن استمرار انهيار سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، ووصول التضخم في 2019 لأعلى معدلاته منذ 15 عاماً بـ25%، وارتفاع معدلات البطالة بـ3.5 مليون شخص وبديون بلغت 2.585 تريليون ليرة يوليو 2018، ما يعادل نحو 500 ضعف نظيرتها عام 2002، فيما يقف أردوغان عاجزا عن إنقاذ اقتصاده المنهار.
تلك كانت بعض التناقضات والزيف المستمر الذي يستند إليه النظام التركي للترويج لنفسه، أعادتها إلى الذاكرة رسالة قاسية بعثها الرئيس الأمريكي لرجب طيب أردوغان، يقول فيها "لا تكن أحمق ولا تخاطر بأن تذكر كشيطان، وإلا فإن اقتصاد بلادك سيدمر"، وفي انتظار الرد التركي الذي يبدو أنه لن يأتي أبداً يتبادر سؤال لأتباع أردوغان في العالم العربي.. أين ذهبت الكرامة والسيادة التركية التي تتبجحون بها؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة