هناك ترهل في الجهاز الحكومي، ومع ديون العراق لا يمكن للحكومة أن تفي بأي وعد تقطعه.
بعد نصف قرن من الحروب والديكتاتورية والحصارات والاستهتار بمصائر الشعوب، ها هو الشعب العراقي ينهض من جديد على يد شبابه، لو حصل للعراق مع ما حصل لأي بلد آخر، لما استطاع أن ينهض ثانية، فما السّر في هذه الروح الشبابية الناهضة التي قدمت أكثر من 300 شهيد في مظاهرات سلمية في بضعة أيام؟ وهذا ما أرعب الأحزاب الدينية الحاكمة؛ لأن المظاهرات كانت وطنية وعلمانية إن صح التعبير؛ لأنها بعيدة عن الشعارات الطائفية الضيقة.
نقول إن ما جرى للمجتمع العراقي من تنكيل وتذليل وتدمير لم يحد من ثوريته ونبضه الحي، وسوف يعبر إلى الضفة الأخرى، وقد رأى العالم معجزته الكبرى تتجسد في الصدور العارية التي واجهت الرصاص الحي والقناصة المختبئين وراء أقنعة الطائفية والمليشيات، ففي مقالات عديدة سابقة، نبّهنا إلى خطورة هذه المليشيات الطائفية ليس على العراق بل على المنطقة والعالم أجمع؛ لذلك طالبت الولايات المتحدة، بعد أن أدركت خطأها، بضرورة حلها وتفكيكها، بعد أن تغلغلت وهيمنت على مصائر البشر، ضاربة بعرض الحائط أسس الدولة الهشة الضعيفة.
هناك ترهل في الجهاز الحكومي، ومع ديون العراق لا يمكن للحكومة أن تفي بأي وعد تقطعه، فهناك صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى، ورئيس الوزراء عادل عبدالمهدي عاجز عن مواجهة حيتان الفساد؛ لأنها تحولت إلى مؤسسات قوية وراسخة في المجتمع العراقي، ولا يكفي طرد ألف موظف فاسد في إنقاذ العراق
لقد أثبتت الأحزاب الدينية الفاسدة أنها غير جديرة بالحياة بل وعاجزة عن صنع الحياة الكريمة؛ إذ تشير الإحصاءات إلى أن العراق هو ثاني بلد في نسبة الجياع بعد اليمن في العالم العربي، ولا تزال ميزانياته الفلكية والمليارية تتكرر عاماً بعد عام دون أن يرى منها الشعب العراقي أي شيء.
لا يمكن أن يستمر هؤلاء في حكم الشباب الذين يتمتعون بوعي فكري تجاوزهم بعد أن انفضحت الرؤوس الكبيرة التي تعتمر العمامات تحت غطاء الدين، التي هي مجرد دمى تحركها إيران من وراء الحدود. فقد أشعلت ثورة الشباب الجذوة في أعماق اليائسين، بعد أن سطروا المعجزات، شباب بعمر الزهور تجاوزوا الطائفية التي أنفقت عليها أمريكا وإيران المليارات، المتظاهرون سلميون ولا يجوز مواجهتهم بهذه الطريقة الوحشية: الرصاص الحيّ أو القنص أو خراطيم المياه الساخنة أو القنابل المسيلة للدموع؛ بل إن بريرية الأجهزة الأمنية الطائفية وصلت إلى درجة أنها ذهبت إلى المستشفيات واعتقلت المتظاهرين الجرحى، نحو 350 إلى 400 متظاهر جريح.
إن الوعود التي تجاهر بها الحكومة ما هي إلا طريقة في كسب الوقت ليس إلا؛ لأنها غير قادرة على ذلك، هناك ترهل في الجهاز الحكومي، ومع ديون العراق لا يمكن للحكومة أن تفي بأي وعد تقطعه، فهناك صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى. ورئيس الوزراء عادل عبدالمهدي عاجز عن مواجهة حيتان الفساد؛ لأنها تحولت إلى مؤسسات قوية وراسخة في المجتمع العراقي. ولا يكفي طرد ألف موظف فاسد في إنقاذ العراق، لقد فات الأوان على الوعود التي لا يثق بها الشباب خاصة، والتي سبق أن سمع بها أيام الانتخابات المزيفة، الحكومة عاجزة على القضاء عن المفسدين وتوفير فرص عمل شريفة للشباب؛ لأنها قضت على المصانع والشركات الصغيرة والمتوسطة ودمرت الزراعة التي كانت مزدهرة في العهد الوطني، وذلك من أجل تصريف البضائع الإيرانية ودعم اقتصادها، فهل يُعقل أن يعتمد 8 ملايين عراقي على خزينة الدولة، بينما لم يكن عدد الموظفين في النظام السابق يتجاوز المليون.
إن طريقة وأسلوب التعامل مع هذه المظاهرات الشبابية السلمية فضحت المرجعية الدينية التي أثبتت أنها مجرد تابع لهذه السلطة لا أكثر. وهي تمارس التسويف والتخدير، وتتحدث عن المظلومية ولا تجرّم قتل مئات الشباب الذين طالبوا بحقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة.
لا يُحتسب ما يجري في العراق اليوم بمقاييس الانتفاضات والهبّات المتعارف عليها والمألوفة في التاريخ، فما يجري هو قيامة يجب أن تقاس بمقياس معاندة الموت والوقوف بوجه المحو من الوجود.
ترى هل تشمل الهبّة الكبرى الإعجازية كل روح العراق وعقله؟ وهل توقظ الجميع ليبادروا من ساعتهم، فيضعوا كل ما في نفوسهم من أسباب اليأس والقهر وفقدان الأمل وتجمّد آلة الزمن، في الارتقاء إلى ما تستحقه بلادهم العظيمة وشعبهم الأعظم؟
إن مَنْ ينهضون من تحت الرماد هم شعلة وهّاجة، وليسوا مجرد منتفضين، بل هم أبناء المعجزة التي انتظرها العالم منهم، إنهم بلا أدنى ريب أبناء كبرى المعجزات التي مرت على الكائن البشري، كلحظة وانطلاق، وكوعد ذاهب إلى ما وراء الأفق، العراق يكتب البدء الثاني كما كتب الأول في سومر قبل آلاف السنين.
والعراق لن يكون بعد اليوم هو ذاته الذي كان قبله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة