نقد من مشاهد غيّر أسلوب صلاح أبوسيف رائد الواقعية السينمائية

يُعد المخرج المصري صلاح أبوسيف واحدا من أبرز رواد الواقعية في السينما العربية، حيث يشكل نمطا فريدا يستحق الدراسة والتأمل العميق.

قدم أبوسيف خلال مسيرته الفنية 42 فيلما، مخلصا لتيار الواقعية الذي اختاره كنهج إخراجي طغى على معظم أعماله.

ومع ذلك، لم يقع في فخ التوثيق الجاف كما فعل كثير من مخرجي الواقعية بعده، ولم يتجاوز حد التجريب ليقع في فخ التغريب، كما فعل بعض المخرجين مثل يوسف شاهين.

كان أبوسيف حريصًا على تحقيق توازن بين الشكل والمضمون، بين جماليات الفيلم وقضاياه.

في هذا السياق، نصح طلابه في إحدى اللقاءات المنشورة بموقع "المدرسة العربية للسينما والتلفزيون" قائلًا: "أرجو منكم أن تأخذوا في اعتباركم القيم الجمالية، ولا تعتقدوا أن ذلك يعني تزييف الواقع. لقد سئمنا من القبح بجميع أشكاله الذي يُمارس تحت دعوى الواقعية، وهذا يعد خلطًا كبيرًا. رغم أن الواقع يحمل اللونين الأبيض والأسود، إلا أنه يوجد بينهما العديد من درجات الرمادي، مما يمنح الفنان حرية الاختيار ليضفي لمسة جمالية تجذب المشاهد ليشاهد عمله".

من جهة أخرى، استطاع أبوسيف كسب تقدير النقاد والجمهور على حد سواء، فبجانب الجوائز العديدة التي حصل عليها والمهرجانات الدولية التي مثلت مصر، أعرب الجمهور العربي عن حبه لأفلامه، حيث يحفظ منها مشاهد كاملة كما يحفظ الأبيات الشعرية أو مقاطع الأغاني المحبوبة.

المشاهد العادي يستطيع قراءة أفلامه جمالياً من خلال فهمه للغة السينمائية التي يعبر من خلالها عن رؤاه.

في هذا السياق، يتجلى لنا المشهد الأيقوني من فيلم "القاهرة 30" حيث يُظهر حمدي أحمد جالسًا على الكرسي مرتديًا الطربوش، وخلفه على الجدار قرني تيس يظهران في الكادر وكأنهما يخرجان من رأس شخصية محجوب عبد الدايم (التي يؤديها حمدي أحمد)، في دلالة على موقفه غير الأخلاقي الذي يجعله يبدو كالتيس الذي لا يغار على شرفه.

الحقيقة أن سر شعبية أبوسيف لا يكمن فقط في اللغة السينمائية الرفيعة التي تهم النقاد، أو في الواقعية المفرطة التي تجذب الجماهير، بل في مقدار الصدق الذي تحمله أعماله، وقدرة المخرج على التعبير عن وجهة نظره بلغة يفهمها الجميع، دون أن يتجاهل جماليات العمل، فالأعمال السينمائية في النهاية تنتمي إلى فن بعيد عن مجرد الواقع.

من هذا المنطلق، يتبنى أبوسيف مفهومًا للواقعية يتيح له التنقل بحرية بين أفلام مثل "الزوجة الثانية" و"شباب امرأة"، وبين أفلام تجريبية مثل "بين السماء والأرض"، أو خيالية مثل "البداية". ويعبر عن هذا المعنى بقوله: "الواقعية هي أن تكون صادقًا في تقديم فنك للمتفرجين. إضافةً إلى الصدق، يجب مراعاة القيم الجمالية وإتقان العمل، وفوق ذلك، يجب أن يحمل الفنان رأيًا صائبًا من الناحيتين الأخلاقية والسياسية. وعليه أن يتناول موضوعات ترتبط بمشكلات تهم جميع فئات المجتمع، وقد تمتد لتهم الإنسانية جمعاء".

من خلال رؤيته، يمكننا الوصول إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي العلاقة بين الفن والأخلاق، حيث يضع أبوسيف القيم الأخلاقية والسياسية فوق القيم الجمالية، مما يعني تغليب المضمون على الشكل.

تأتي هذه الرؤية من رغبته في تقديم ما يهم الناس، بل الإنسانية جمعاء. وفي إحدى اللقاءات التلفزيونية، عبّر عن رغبته في إخراج فيلم حول قضية التفرقة العنصرية، وهي قضية إنسانية بامتياز.

يمكن العثور على نقطة الانطلاق في هذا الاتجاه السينمائي الملتزم في بدايات أبوسيف، حين أخرج أول أفلامه "دايمًا في قلبي".

يتذكر أبوسيف واقعة ذات دلالة حول هذا الفيلم الرومانسي الغنائي، حيث احتوى على مشهد غرامي يحدث في حديقة الأسماك، وأعدّ المشهد بحيث يجلس الشاب وتنام الفتاة بجواره على العشب.

كونه مخرجًا مبتدئًا، أعجب بهذا التكوين من الناحية الشكلية، ولم يلتفت إلى مضمون المشهد أو المعنى الذي يمكن أن يُستنتج من هذا التكوين. ولم يكن من أحد أبناء البلد غير المتعلمين إلا أن قال له بشكل عفوي: "مش عيب يا أستاذ البنت تنام للولد بالشكل ده من أول مقابلة".

علق أبوسيف على هذه الواقعة، مما يكشف عن تواضعه كصانع أفلام يتعلم من المشاهدين، حتى لو لم يكونوا متعلمين. قال: "عندما أعيد التفكير فيما قاله هذا الشخص، أدركت أن تركيزي على التكوين وشغفي بالشكل جعلاني أفتقر للمعنى الذي قد يصل للمشاهد من خلال هذا التكوين، وبالتالي أعطيت الأولوية للشكل على حساب المضمون. تعلمت هذا الدرس جيدًا ولم أكرر الخطأ، وأصبحت أولي اهتمامًا متساويًا لكل من الشكل والمضمون، مع إعطاء الأولوية للمضمون أولًا، ثم الشكل بعد ذلك".

في الحقيقة، لم يتخلَّ أبوسيف عن الشكل تمامًا لصالح المضمون، بل جعله في خدمة المضمون، وهي الرؤية التي لا يتقبلها دعاة الفن للفن.

وبذلك يقترب أبوسيف من المنظرين السيميائيين الذين يعتبرون مفردات الفيلم فضاءً لغويًا يشبه اللغة الطبيعية المستخدمة في الحياة اليومية.

تتألف أبجدية اللغة السينمائية التي اعتمد عليها أبو سيف في أفلامه من ثمانية حروف: خمسة تخص الصورة وثلاثة تخص الصوت.

يجب على السينمائي إتقان هذه الحروف ليعبر عن رؤيته الفنية من خلالها. الحروف الخمسة الخاصة بالصورة هي: الديكور، الممثل، الإكسسوارات الثابتة، الإكسسوارات المتحركة، والإضاءة. أما الحروف الثلاثة الخاصة بالصوت فهي: الحوار، الموسيقى، والمؤثرات الصوتية.

على الرغم من تأثره بالواقعية الإيطالية التي تعتمد بشكل كبير على اللقطات الطويلة، إلا أن خبرته الطويلة كمونتير في استوديو مصر جعلته يعتمد أكثر على الجماليات السينمائية المستمدة من المونتاج. في هذا الإطار، يميز أبو سيف بين نوعين من المونتاج: المونتاج المتوازي والمونتاج الفكري.

من أمثلة المونتاج المتوازي، المشهد في فيلم "الفتوة"، الذي يقارن بين عمل البطل الفنان فريد شوقي في جر عربة الخضار، وحمار يقوم بنفس العمل.

نرى القطعات نفسها على لقطات متشابهة لحركة رجلي البطل وحركة أرجل الحمار، مما يوحي بأن بطل الفيلم يعمل كالحمار.

مشهد مشابه يمكن العثور عليه في فيلم "شباب امرأة"، حيث يظهر مقارنة بين إمام "شكري سرحان" صاحب الجسد المفتول وهو ينقذ أحد العمال الذين سقطوا تحت الطاحونة، قبل أن يقع في غواية "شفاعات" (تحية كاريوكا)، مشيرًا إلى قوة إمام البدنية من جهة، والشرك الذي ستنصبه له شفاعات.

لا يمكننا تجاهل مشهد استدراج الضحية وقتلها في فيلم "ريا وسكينة"، ثم الانتقال إلى "السلخانة" حيث تواصل قوات البوليس التحقيق في جرائم القتل المستمرة، مع قطع للقطات لجزار وهو يقوم بذبح نعجة، في دلالة على أن الضحية قد ذُبحت كما تُذبح النعجة.

أما عن أمثلة المونتاج الفكري، فهي عديدة وتظهر قناعات أبوسيف الأخلاقية في صناعة السينما.

يمكن الاعتماد عليها عند النظر في أي اتجاه سينمائي يهدف إلى التركيز على الأخلاق العملية على الجماليات الفنية، كما حدث عندما أطلق البعض مصطلح "السينما النظيفة" دون غطاء نظري مقنع سوى النية الطيبة والدعوة إلى الأخلاق الحميدة.

في هذا الصدد، نجد لدى أبوسيف العديد من المشاهد التي تعبر عن أكثر اللحظات الإنسانية حرارة دون الوقوع في الابتذال أو المباشرة. أبرزها مشهد من فيلم "الأسطى حسن" حيث تؤدي الفنانة زوزو ماضي دور سيدة أرستقراطية تحاول إغراء الأسطى حسن (فريد شوقي) إلى غرفة نومها. نظرًا لرغبة أبو سيف في عدم تصوير العلاقة الجنسية، استخدم تمثالًا في أحد الأركان يصدر صوت صفير. يسأل فريد شوقي عن هذا التمثال في لقطة سابقة، فترد قائلة إن صوته يصدر عند انبساطها.