التداخل بين مجالات التنمية يلغي فكرة التراتبية التي تقول: علينا أن نبدأ بالتنمية الاقتصادية التي تؤدي لتنمية اجتماعية وإنسانية وسياسية
في الشهر الماضي أقيمت النسخة الثالثة من "منتدى شباب العالم 2019" الذي يقام سنويا في مدينة شرم الشيخ المصرية، كان حضورا ملفتا وتواجدا عالميا بكل المقاييس. فكرة أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسي على شكل مؤتمرات وطنية بغرض إقامة حوار بين مؤسسات الدولة والشباب. ثم تحول من مجرد مؤتمر وطني مصري داخلي يخص شباب مصر إلى "صيغة عالمية" تحت مسمى "منتدى شباب العالم".
من هنا تأتي أهمية وجود منصة أو فعالية أو مؤسسة يكون دورها التواصل مع الشباب أو إتاحة فرصة التعبير والحوار والمشاركة وغيرها، لكن هذا الموجود النشاطي على الأرض يفرض نوعا من القراءة والفهم والتحليل الذي بدوره يفتح نوافذ فكرية ومعرفية أوسع لكونه مجرد نشاط
هذا التحول لم يأتِ من الدولة وإنما خرج من الشباب فكان ذلك في أحد المؤتمرات الشبابية الذي عقد في الإسماعيلية في أبريل 2017. كانت المسافة الزمنية التي تحول فيها المقترح إلى حقيقة بعد أن أطلق الرئيس المنتدى، أربعة أشهر لميلاد الحدث بعد أن أطلق الرئيس المنتدى في نوفمبر 2017 .
ولدت النسخة الأولى للمنتدى بمشاركة 3200 شاب من 113 دولة، جاء الشعار صريحا "نحن نحتاج إلى الحديث" وكان هناك تركيز على مناقشة سبل محاربة الإرهاب. وفي نوفمبر 2018 عقدت النسخة الثانية من المنتدى بمشاركة 5000 شاب من جميع الجنسيات. وتأكد دور المنتدى باعتباره منبرا شبابيا يتيح لشباب العالم أجمع أن يدلوا بآرائهم فيما يحدث حولهم من متغيرات عالمية. ودارت المناقشات على ثلاثة محاور "السلام، التنمية، الإبداع"، وهنا أشير إلى نقطة مهمة أنه خرج من توصيات هذه النسخة "إقامة ملتقيي الشباب العربي والأفريقي في مارس 2019 في أسوان"،
وجاء هذا الملتقى متخصصا بعض الشيء إذا اكتفى فقط بمناقشة القضايا الأفريقية والعربية. إذا تلك كانت نظرة الميلاد والتأسيس والانطلاق لهذا الحدث، ولكن ثمة أبعادا أخرى لمناقشة هذا الحراك الشبابي المؤسسي.
ليس عيبا ولا مستغربا أن كل نظام سياسي حريص على التواصل مع شريحة الشباب، باعتباره العمود الفقري الذي يمكن أن تبنى عليه خطط التنمية في شقها الاقتصادي وأيضا في شقها السياسي. ففي عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أسس منظمة الشباب الاشتراكي في عام 1963 واستمرت حتى عام 1976.
هذه المنظمة يقول من عايشها إنها لعبت دورا مهما في تثقيف الشباب وصقل مهاراتهم السياسية وكان لها ممثلون في "الاتحاد الاشتراكي العربي" تقول الإحصاءات إنه انتمى إليها ما يقارب ثلاثين ألف شاب وفتاة في مصر. وبغض النظر عن الحكم على هذه المنظمة فإنها اعتبرت منصة ووسيلة حاول نظام عبدالناصر من خلالها أن يمد خطوط تواصله مع الشباب المصري.
جاء عهد الرئيس الراحل أنور السادات فكانت مرحلة السبعين مرتبكة بامتياز، قبل انتصارات 73 كان الشباب الاشتراكي يضغطون على السادات طلبا للحرب والخلاص من الهزيمة وسيطرت الروح الوطنية العالية على جميع الشباب، وقتها كانت هناك قضية تجمعهم. ولما تحقق الانتصار الباهر في أكتوبر 1973 وقع السادات بين خيارات وصفقات، بين الإسلاميين وبين اليساريين نتج عنها أنه فتح الجامعات أمام الإسلاميين ليواجه بهم اليسار وفي المحصلة اغتالته هذه التنظيمات.
ولما جاء عهد الرئيس حسني مبارك ظل الأمر مغيبا في ذهنية السلطة حتى أسس جمال مبارك "جمعية جيل المستقبل" عام 1998، قيل إنه كان يستهدف استقطاب 40% من الشباب من أجل تدريبهم في إطار مشروع طموح لتنمية بشرية وإنسانية واجتماعية.
استمرت اجتماعات الجمعية حتى سبتمبر 2010 وبعدها انطلقت ثورة الخامس والعشرين من يناير وتوقف المشروع بعد أن سقط نظام الرئيس مبارك.
إحصائيات شباب مصر في 2017 العام الذي انطلقت فيها النسخة الأولى لمنتدى شباب العالم جاءت المؤشرات تبعا لما أعلنه الجهاز المركز للإحصاء 11 مليون شاب و300 ألف في عمر 18 :29، وصل هذا العدد إلى 20 مليون شاب في نفس الفئة العمرية في 2019 من بينهم 3 ملايين طالب و389 ألف خريج. إذا أضفنا إليهم فئة عمرية أخرى تحسب في إطار الشباب أيضا وهي الفئة من 29: 37 عاما يمكن القول إننا نتحدث عما يزيد على ثلث سكان مصر من الشباب.
من هنا تأتي أهمية وجود منصة أو فعالية أو مؤسسة يكون دورها التواصل مع الشباب أو إتاحة فرصة التعبير والحوار والمشاركة وغيرها. لكن هذا الموجود النشاطي على الأرض يفرض نوعا من القراءة والفهم والتحليل الذي بدوره يفتح نوافذ فكرية ومعرفية أوسع لكونه مجرد نشاط، إذا هي العلاقة التي تربط بين التنمية السياسية والتنمية الإنسانية.
انشغل كثير من المفكرين والفلاسفة في رصد العلاقة بين التنمية السياسية والإنسانية وعملية التحول الديمقراطي في العالم أجمع، صاموئيل هانتجتون المفكر الأمريكي الكبير صاحب "نظرية صدام الحضارات" يرى أن أسباب انتشار الموجة الديمقراطية الثالثة التي بدأت بعد التسعينيات تعود إلى أواخر الستينيات التي شهدت نموا اقتصاديا عالميا، ارتفعت فيه نسبة المستويات المعيشية وكان هذا بمثابة تنمية اقتصادية أدت إلى تنمية إنسانية أنتجت بالتعبية تنمية سياسية.
هانتنجتون يؤكد أن هناك علاقة متلازمة حتمية بين التنمية في المجالات الإنسانية والسياسة، وهناك مقولات تكاد تكون شبه مسلمات "أن الدول التي لها مستوى عال من الدخل الاجتماعي والتقدم الاقتصادي تكون هي الأكثر استقرارا من الناحية السياسية".
وهنا يكون الخيار أمام أي نظام سياسي صعبا جدا، إذا أراد أن يعمل على تطوير التنمية السياسية في بلده، ونشر مهاراتها وبناء أجيال تكون قادرة على تولي أدوار قيادية، أجيال لديها الخبرة والدراية بما يحدث في مجريات العالم حوله، جيل مرتبط بوطنه لديه ما يمكن أن نسميه عقيدة المواطنة.
هل يبدأ بالتنمية الاقتصادية التي ستؤدي إلى التنمية الإنسانية التي ستؤدي إلى التنمية السياسية؟ أم يبدأ بالتنمية السياسية باعتبارها قد تؤدي إن نجحت إلى نوع من التنمية الإنسانية؟
رغم أن مفهوم التنمية الإنسانية نفسه جديد علينا، بدأنا نتعرف عليه في 1990 مع صدور أول تقرير للتنمية الإنسانية من إنتاج العمل الإنمائي للأمم المتحدة وكان وقتها تعريف هذه التنمية ملفت "وهو تنمية الناس بواسطة الناس من أجل الناس"، في 2002 تم توسيع تعريف التنمية الإنسانية لتكون كل ما يشمل توسعة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية.
إذا هذا التداخل بين مجالات التنمية يلغي فكرة التراتبية التي تقول: "علينا أن نبدأ بالتنمية الاقتصادية التي تؤدي إلى تنمية اجتماعية تؤدي إلى تنمية إنسانية يترتب عليها تنمية سياسية تنتج نظما سياسية رشيدة تقوم على مشاركة شعبية حقيقية".
نكمل في المقال القادم
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة