يحيى حقي.. مازج البسمة بالألم والمتعة بالشجن
ربع قرن مضى على رحيل سيد المقال الأدبي، وأحد آباء الكتابة الأدبية في تاريخنا المعاصر، الكاتب الراحل يحيى حقي (1905 - 1987)
ربع قرن مضى على رحيل سيد المقال الأدبي، ومؤرخ القصة العربية القصيرة، وأحد آباء الكتابة الأدبية في تاريخنا المعاصر، الكاتب الراحل يحيى حقي (1905 - 1987)، صاحب الروائع التي لا تنسى: "صح النوم"، "أم العواجز"، "عنتر وجولييت"، "سارق الكحل"، "خليها على الله"، ودرته الفاتنة "قنديل أم هاشم"، و"البوسطجي".. وغيرها من الأعمال التي أصبح بها يحيى حقي، بجدارة واستحقاق، أحد آباء الكتابة العربية الحديثة في القرن الأخير.
عاصر يحيى حقي، في حياته، حشدا من عمالقة الثقافة المصرية العظام. كان من بينهم طه حسين والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم ومحمد حسنين هيكل، ومحمد مندور ولويس عوض وجمال حمدان ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم وشكري عياد ورجاء النقاش وعشرات آخرون، وكان هؤلاء كتيبة من المدفعية الثقيلة في معركة التنوير والحرية، يمارسون المهمة الحقيقية للمثقف وهي "قيادة الفكر".
كان يحيى حقي أديبا متفردا، على قدر ما في كتابته من تسامح وإنسانية وقدرة على الفكاهة لا تبارى، يفتح عينيْ قارئه على هموم كان غافلًا عنها ويفجر ألغامًا لم يكن يتوقعها، ثم سرعان ما يمسح الهم عن نفسه بابتسامة حانية. وهو يبتسم معه بالفعل، ولكن ذلك الشجن الخالي من القسوة ومن المرارة، سيبقى مصاحبا لقارئه دائمًا مثل لحن جميل، يتردد صداه في نفسه، ويدفعه دفعًا إلى أن يعيد قراءة "يحيى حقي"، في كل ما كتب لكي يسترجع النغم مرة بعد أخرى. يصبح يحيى حقي منذ دخل قارئه إلى عالمه صديقا حميما مدى العمر، الصديق الذي يصدقه دون وعظ ولا افتعال، ودون نظريات ولا فلسفات. هو بالفطرة السليمة وحدها ضميره الحي.
ولم يكن حقي مبدعا كبيرا من الطبقة الأولى الممتازة في القصة والرواية فقط، بل كان مبدعا أيضا في كل ما خطت يمينه في الأدب والنقد والفن والسياسة والتاريخ والترجمة، مُبدعا لا يُبارى في تذوق النصوص والتعليق عليها والكشف عن جمالها والتوقف عند عباراتها وألفاظها وتصاويرها وبيان مدى ملائمتها للمعنى الذي تعبر عنه أو تسعى لتصويره، كان مبدعا في علاقته الحميمة باللغة التي يكتب بها، ويحاورها، ويهامسها، ويتذوقها لأقصى درجات التذوق والبصر حتى منحته كنوزها وخفاياها ينهل منها ما شاء كيفما شاء.
إن هذا الوجه من الوجوه الإبداعية ليحيى حقي لم ينل الاهتمام الكافي ولا وقع منه شيء تحت أيدي الناشئة والشباب والكتاب الجدد.
وكانت المرة الأولى التي يقرأ فيها محبو حقي مقالاته مجموعة بين دفتي كتب حين اتخذ لها عناوين صارت أشهر من نار على علم؛ "تعال معي إلى الكونسير"، "يا ليل يا عين ـ سهراية مع الفنون الشعبية"، "وأنشودة للبساطة ـ مقالات في نقد القصة"، و"عشق الكلمة ـ الكتابات النقدية"..
وعند هذين الكتابين الأخيرين سنتوقف قليلا؛ لما لهما من أهمية فائقة ومكانة جليلة ضمن تراث صاحبها العظيم، فقد ترك حقي إرثا نادرا ورائعا من "الكتابة الجميلة" عن "الكتابة الجميلة"؛ في الإبداع والفن والنقد واللغة، وخاصة في هذين الكتابين القيمين الرائعين "عشق الكلمة" و"أنشودة للبساطة"، واللذين يحملان قدرا وافرا من نظرات فنية ثاقبة في صنعة الكتابة وإبداع القصص والفنون بعامة، سجلها حقي بحس فنان عظيم وخبرة كاتب قصة من الطبقة الأولى وروح إنسان ترقى في معارفه ومداركه حتى وصل لغاية رفيعة من التواضع الحقيقي والذوق الأصيل في التعامل مع البشر والنصوص.
إن كتابه "أنشودة للبساطة ـ مقالات في فن القصة"، واحد من أجمل ما كتب حقي، أنشودة حقيقية للعمق والأصالة والفهم الحقيقي للأدب، وفيه قدم صاحب "قنديل أم هاشم" دروسا باذخة لناشئة الكتاب والمقبلين على الكتابة لن يجدوها في أي مكان آخر سوى مدرسة البديع يحيى حقي.
عن التراث الأدبي، وعن الأدب العربي، وعن لغة الكتابة، ولمن يكتب الكاتب، وجولات في محراب الفن، دارت فصول "أنشودة للبساطة"، من الصعب أن ينتهي قارئ من صفحة في الكتاب دون أن تستوقفه عبارة لجمال لغتها وبساطة تعبيرها، فقرة موحية بعمق طرحها وفكرتها العبقرية، نصا بديعا يمثل خلاصة مقطرة مصفاة حصيلة ما يزيد على نصف القرن من الإبداع والكتابة والثقافة.
مثلا، في موضع من الكتاب، يوجه حقي حديثه لناشئة الكتاب وشباب القراء على السواء عن الأدب العربي القديم، نصيحة ذهبية، يقول لهم: "لا تنسوا أن الأدب العربي هو مادتكم التي تشتغلون بها، اقرأوه بإمعان، بنظرة فاحصة جديدة تسندها ثقافة العصر، هو وحده الذي سيعلمكم فن القول. وما فن القصة إلا نوع من فن القول. أنتم تقيمون بناء أحجار هي الكلمات، ستجدون في الأدب العربي الخالي من القصة سر هذه الكلمات؛ دلالاتها، جرسها، أطيافها. لا تبحثوا في الأدب العربي عن القصة، لن تجدوها، ابحثوا فيه عن الكلمة، ستجدونها، ستشبع نفوسكم بسر اللغة التي تكتبون بها"..
وفي موضع آخر يتحدث عن "الإلهام" الذي يضرب الكاتب بغير طلب منه ولا رد: "الإلهام نور ساطع كاشف لجميع آفاق الروح والعالم.. يهبط على من يختاره دون سبب ظاهر فيتلقاه بغير سعي منه إليه". وهو ذاته الذي أكد أن "كل قول في الفن إنما هو وجهة نظر فردية، فالفن قنيصة يبقى منها دائما خارج الشباك جزء منفلت، إنه يكره التعميم ويعلو عليه، ويكره الحد والقطع، أبرع تعريف له لا يغنينا ولا نبلغ به حد الاطمئنان والشبع، ونحن أقدر على الإحساس بغياب الفن منا على الإحاطة به وتعريفه حين نلقاه"..
ويتحدث حقي عن الموهوبين في القصة من كتاب الجيل الجديد: "هم كثيرون ولكنهم ضائعون وسط زحام شديد من قصص تافهة يكتبها أناس لا ترى في عيونهم لمعة الذكاء، ولا في جباههم بصيصا من ضوء.. فليست المسألة ماذا كتبت بل هي من أنت؟". وانظر إليه وهو يقول: "أبأس الخلق هي الطيور التي لا تقع إلا على أشكالها.. فإنها تجمد على نقائصها وتظل فضائلها فرضا من الفروض لافتقارها إلى الضد.. إن سعادتها وهمية"..
إن قراءة كتب يحيى حقي بمثابة "آليات علاجية مضادة للاكتئاب والقبح والفوضى، فلغته لا مثيل لها بين الكتاب جميعا".. ويوشك أي حديث أو محاولة للكتابة عن كلمات يحيى حقي أن تكون، كما قال تلميذه بهاء طاهر، عدوانًا على كلماته التي تشف بللورا صافيًا، تخلص من كل الشوائب والزوائد وتنتظم في بناء موسيقي، ما إن تقرأه حتى يتحرك في داخلك نغم متصل من جملة إلى جملة تمتزج فيه البسمة بالأمل والمتعة بالشجن.
aXA6IDMuMTQ3LjYyLjk5IA== جزيرة ام اند امز