في الذكرى التسعين لميلاده: بدر شاكر السياب والريادة الشعرية الحديثة
تحل ذكرى شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب هذه الأيام..وهو من تنسب له ريادة تيار "الشعر الحر" وتأسيس ذلك التيار الشعري الذي كتبت له السيادة لما يزيد على نصف القرن.
منذ الخمسينيات، بدأ تيار شعري جديد في التشكل والظهور، هو ما عرف باسم "الشعر الحر" أو الشعر الجديد، وفي تسميات أخرى اتجاه قصيدة التفعيلة، والسطر الشعري، الذي راده بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأحمد عبد المعطي حجازي. وبرزت فيه أسماء شعرية لامعة حققت حضورا متوهجا على ساحة الشعر العربي الحديث، منها: عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأدونيس وممدوح عدوان ونزار قباني وخليل حاوي وغازي القصيبي وعبد العزيز المقالح وسميح القاسم ومحمود درويش وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة، وغيرهم كثير.
يتفرد من بين هؤلاء جميعا الشاعر العراقي الفذ بدر شاكر السياب (1926-1964) الذي حلت ذكرى ميلاده التسعين هذه الأيام، إليه تنسب ريادة هذا الاتجاه وتأسيس ذلك التيار الشعري الذي كتبت له السيادة لما يزيد على نصف القرن. وقد بات من المعروف، بحسب الناقد والمؤرخ الراحل إحسان عباس، أن الرواد العراقيين نازك والسياب والبياتي "كانوا هم رسل هذه الثورة بتأثير من الشعر الإنجليزي، وكانت ثورتهم في شكلها الأولى تمثل تخلصا من رتابة القافية الواحدة".
وبلا شك، فإن الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، إن لم يكن هو الرائد الأول لشعر التفعيلة، فهو أحد روادها الأوائل بلا منازع شعر التفعيلة. ولد السياب في بلدة جيكور من أعمال البصرة وتخرج عام 1948 في دار المعلمين العالية، حيث درس في قسم اللغة العربية، ثم اللغة الإنجليزية. وأقام علاقات صداقة ومثاقفة واسعة مع نظرائه؛ بلند الحيدري، وسليمان العيسى، وإبراهيم السامرائي، ثم مع خالد الشواف ومحيي الدين إسماعيل، والبياتي، وكاظم جواد ورشيد ياسين وشاكر خصباك، وكانت جلستهم في مقهى الفرات (ساحة الأمين ببغداد).
وفي دار المعلمين شارك في نشاط جماعة "عبقر"، كما كثرت قراءاته في الموروث والآداب الأخرى. ودعاه خالد الشواف إلى متابعة "آثار الغابرين" فنشط في قراءة أبي تمام والبحتري، إضافة إلى الرصافي والجواهري.. لكنه أمعن أيضًا في قراءة الرومانسيين الانجليز والعرب: كيتس وشلي ووردزورث وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي، وإلياس أبو شبكة، كما قرأ لكل من شكسبير وملتون، وذلك قبل الانتقال إلى ت. س. إليوت وآخرين. وتشير رسائله إلى خالد الشواف إلى سعة قراءاته، وإلى نفسية شاعرة قلقة رقيقة متابعة للجديد، ومتطلعة إلى تجاوز شعورها الطاغي بالغبن إزاء إهمال الآخرين لدورها في التجديد.
انضم السياب للحزب الشيوعي العراقي بين عامي 1944-1945، وسجن في عام 1946، ثم عمل مدرسًا في الرمادي (1948-1949)، واشتغل في شركة التمور العراقية في البصرة لفترة، فر بعدها، من المطاردة السياسية، إلى الكويت وإيران (1951-1952)، ثم عاد وعمل في جريدة الدفاع، في مديرية الاستيراد والتصدير واتسعت علاقاته وتردد على المقاهي الثقافية.
وتعد كتاباته بين 1948-1954، بمثابة التعبير عن مرحلة الانتماء اليساري وفيها ظهرت قصائده الشهيرة "الأسلحة والأطفال" و"حفار القبور" وكذلك "المومس العمياء" التي لم يستقبلها صحبه الشيوعيون بارتياح كامل. ثم أخذ ينشر في مجلة "الآداب" منذ ظهورها عام 1953.
وقد جمعت دواوينه في الأعمال الكاملة سنة 1971 ومن أهمها: "أنشودة المطر" (1960)، و"منزل الأقنان" (1963)، و"أزهار وأساطير" (1963)، و"شناشيل ابنة الجلبي" (1964).
على يد السياب ورفقته، شهدت حركة الشعر الحديث انقلابات جذرية، فهي ذاتها بدأت بانقلاب أو ثورة لأنها تناولت الثورة على الجذور؛ الجذور الإيقاعية والبنيوية للجملة الشعرية والخيال الشعري (الصورة الشعرية).. تلك العناصر التكوينية والبنائية للقصيدة، سواء على مستوى المضمون أو على مستوى الشكل. وكانت مناطحة قوية بين "المدرسة الجديدة" مدرسة الشعر الحديث و"المدرسة الكلاسيكية" وما تلاها من مدارس الشعر العربي الحديث الرومانسية الديوان والمهجر وأبوللو.. كانت الجذور الأساسية لهذه المدرسة الجذور الواقعية، لكن الجذور الواقعية تفتحت بعد ذلك في أفق إنساني يتراسل مع آفاق الثقافة العالمية، وكما تجسدت في إبداع السياب قصائد ودواوين؟
كان هناك جيلان لحركة الشعر الحديث أو المدرسة الجديدة في الشعر، هما "جيل الرواد" أو ما يعرف بجيل الخمسينيات الذي ضم أسماء نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، ثم جاء الجيل التالي أو "جيل الستينيات" الذي مثل مرحلة التطور والتحول في الحركة الشعرية.
أما جيل الريادة الذي يمثله بدر شاكر السياب فقد رفع الرايات فوق الأرض التي امتلكتها المدرسة الحديثة، وكان يطرح بذوره وأعماله في إطار أيديولوجي إلى حد ما وإطار سياسي وقومي، وبلغ حضور التراث الإنساني والعربي لدى هذا الجيل شوطا بعيدا ومتقدما وهو ما نلحظه بوضوح في شعر السياب، حيث صار حضور التراث مكونا فنيا من مكونات القصيدة لديه، ولم يقتصر مفهوم التراث عند أنماط معينة بل شمل الأساطير والمكتشفات الأثرية والأمكنة وتاريخها وكذلك الشخصيات والأحداث.
وقد تعاون حضور السرد في كثير من الشعر المنتج في هذا الاتجاه مع حضور التراث للتعبير عن هموم الواقع؛ لكن ليس بطريقة تقليدية وبرز في هذا الاتجاه حيث حضر التراث الديني والتراث الشعبي والرموز والأساطير إضافة إلى الحضور اللغوي والصوري، كل هذا أضاف عناصر جديدة للقصيدة الحديثة، إذ تواكب مع مفاهيم جديدة لحضور التراث.