ذكرى رحيل يوسف شاهين.. حكاية مخرج بلا حدود (بروفايل)

تحلّ اليوم الذكرى الـ 17 لرحيل المخرج المصري العالمي يوسف شاهين، الذي غاب جسدًا في مثل هذا اليوم من عام 2008.
يوسف شاهين ظل حاضرًا بأفلامه وصوته المختلف في المشهد السينمائي العربي والدولي، لم يكتفِ بسرد الحكايات، بل استخدم الكاميرا أداة لمساءلة الواقع ومواجهة السلطة وكشف الإنسان.
ولد شاهين في 25 يوليو/ تموز 1926 بمدينة الإسكندرية، في بيئة كوزموبوليتانية جمعت بين الثقافات واللغات، وشكلت مبكرًا رؤيته المنفتحة على العالم.
تلقى تعليمه في كلية فيكتوريا، قبل أن يتجه إلى الولايات المتحدة لدراسة السينما والمسرح في معهد باسادينا بولاية كاليفورنيا، ثم عاد إلى مصر ليبدأ مسيرته عام 1950 بفيلم "بابا أمين"، ويتألق لاحقًا في مهرجان "كان" بفيلمه "ابن النيل".
منذ انطلاقته، آمن شاهين بأن السينما ليست ترفًا بل موقف، وأن الفن يجب أن يطرح الأسئلة حين يصمت الجميع. تنقّل بين الاجتماعي والسياسي والتاريخي والرمزي دون أن يتخلى عن لغته الخاصة، فترك بصمة فريدة في أفلام مثل "باب الحديد" و"الأرض" و"الاختيار" و"الناصر صلاح الدين".
وفي ذروة نضجه الفني، قدّم ما عُرف بـ"رباعية الإسكندرية": "إسكندرية... ليه؟"، "حدوتة مصرية"، "إسكندرية كمان وكمان"، و"إسكندرية نيويورك"، مستعرضًا فيها سيرته الذاتية بجرأة، ومُراجعًا عبرها التحولات الكبرى في مصر والعالم من خلال مرآته الشخصية.
نال شاهين خلال مسيرته الطويلة جوائز وتكريمات من كبرى المهرجانات العالمية مثل "كان" و"برلين" و"فينيسيا"، وكرّمته فرنسا بمنحه وسام الفنون والآداب. لكنه ظل يعتبر أن أعظم إنجاز له هو التأثير الذي تركه في وعي أجيال من صُنّاع السينما، واكتشافه لمواهب أصبحت لاحقًا من رموز الشاشة العربية.
كان شاهين رائدًا في تقديم سينما ذات هوية، تتجاوز الخطاب السائد، وتُقاوم الاستسهال. في فيلمه الأخير "هي فوضى"، الذي أخرجه بالشراكة مع خالد يوسف، اختتم مسيرته برسالة احتجاج على الفساد والقمع، تأكيدًا على أن الفن مقاومة حتى اللحظة الأخيرة.
وفيما تمر اليوم 17 عامًا على رحيله، لا تزال أفلام يوسف شاهين تُعرض وتُناقش وتُلهم. فالمخرج الذي رفض أن يكون جزءًا من القطيع، اختار أن يكون "صوتًا حيًّا" لا يعرف الصمت، وحدوتة لا تنتهي رغم الغياب.
السينما كأداة للتمرد
لم يكن يوسف شاهين صانع أفلام يسعى فقط إلى الإبهار البصري، بل كان صاحب مشروع فكري وفني متكامل، يرى في السينما وسيلة للتمرد على القوالب الجاهزة.
أفلامه لم تأتِ لتُرضي جمهورًا واسعًا، بل لتستفزّ العقل، وتدعو للمساءلة، وتحرض على التفكير. ولذلك، واجه في مشواره الكثير من الهجوم، والمنع، وسوء الفهم، لكنه ظل متمسكًا بأن الحرية هي أصل الفن.
علاقة متوترة مع السلطة
منذ بداياته، خاض شاهين اشتباكًا دائمًا مع السلطة، بكل تجلياتها: السياسية، والدينية، والاجتماعية. في "العصفور" (1972)، أدان بصراحة مريرة الهزيمة النفسية التي سبقت نكسة يونيو، ولامس في "المهاجر" (1994) خطوطًا حمراء بتأويلات دينية أثارت جدلًا واسعًا. ومع ذلك، لم يكن عدوًا للسلطة بمقدار ما كان متمسكًا بالحق في التعبير دون وصاية.
الهوية والانتماء في أعماله
طرح يوسف شاهين مرارًا أسئلة الهوية والانتماء، ليس فقط من خلال تاريخه الشخصي كمصري من أصول متعددة، بل في أفلامه التي عالجت هذا الهاجس مثل "إسكندرية نيويورك"، الذي قارن فيه بين الشرق والغرب، والذات والآخر. ظل منشغلًا بفكرة: من نحن؟ وما الذي يشكل وعينا؟ ولماذا نتحول أحيانًا إلى خصوم لما نجهله؟
لم يكن شاهين مجرد مخرج يختار الممثلين لأداء أدوارهم، بل كان بمثابة أستاذ داخل البلاتوه. اكتشف ودرّب وأعاد تشكيل أداء عدد من أبرز نجوم السينما المصرية. أعطى الفرصة الأولى لهاني سلامة في "المصير"، ولخالد النبوي في "المهاجر"، كما أعاد تقديم نور الشريف بشكل مختلف في "حدوتة مصرية". لم يكن يتعامل مع الممثل كمؤدٍ بل كشريك في بناء الرؤية.
في فيلمه "المصير" (1997)، جسّد شاهين المعركة بين النور والظلام، مستخدمًا قصة الفيلسوف ابن رشد كمرآة للعصر الحديث. دعا من خلاله إلى العقل، والتسامح، والانفتاح، في مواجهة الفكر المتطرف الذي يعادي الفنون والعقل معًا. عُرض الفيلم خارج المسابقة في مهرجان "كان"، ونال إعجابًا واسعًا كرسالة ثقافية وسياسية ضد الإرهاب.
حتى بعد وفاته، ما زالت أفلام يوسف شاهين تُستخدم في دراسات السينما في جامعات عربية وأجنبية، وتُعرض في كبرى المهرجانات ضمن أقسام التكريم أو الكلاسيكيات. لم تتحول أعماله إلى "أرشيف"، بل ما تزال مادة حية تقرأ الواقع، وتتنبأ بالمستقبل، وتُثير النقاش حول قضايا الحرية، والهوية، والسلطة، والإنسان.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjA4IA== جزيرة ام اند امز