بالرغم من تغيّر دور المدرسة في ظلّ مستجدّات العصر، فإنني أرى أنّها -من حيث أهدافها ورسالتها- فضاء للتعليم والتربية معًا
بالرغم من تغيّر دور المدرسة في ظلّ مستجدّات العصر، فإنني أرى أنّها -من حيث أهدافها ورسالتها- فضاء للتعليم والتربية معًا، ولا يمكن لهذا الدور أن يقتصر على الجانب المعرفي والمهاري الذي يتعلمه الطالب بين جدران الصف الدراسي أو في مختبرات العلوم أو في مختبرات الحاسوب، بل يمتدّ إلى النشاط اللاصفي، الذي يشمل الأنشطة الرياضية والكشفية والثقافية والفنية والعلمية وغيرها، والتي لها دور أساسي في بناء شخصيته وتنمية خبراته، وإعداده كمواطن فاعل ومتفاعل مع مجتمعه وعصره، وذلك لأن ما يتعلّمه الطالب، وهو يمارس النشاط، يكون أرسخ وأعمق أثرًا في عقله ونفسه ووجدانه، ومن هنا يجب أن تشتمل المدرسة على فضاءات مناسبة لممارسة الأنشطة ورعاية الإبداع، مثل المسارح ومراكز مصادر المعرفة، والمراسم وغيرها، كما يجب عليها أن تكون مركز إشعاع وتأثير في مجال القيم، فهي تعلّم وتربّي وتنمّي الاتجاهات الإيجابية وتهذّب الأخلاق، وتعدّل السلوك، وتغذّي الروح وتعزّز الأواصر الاجتماعية، وتسهم في بناء المواطنة. وبهذا المعني، فإنّ الحاجة إلى المدرسة -بالرغم من التحولات الكبرى في مجال التعلم الذاتي عبر الفضاء الإلكتروني وتعدد مصادر المعرفة- تظلّ قائمة، مهما تبدّلت أدوارها وتطورت.. بل وتزداد الحاجة إليها وتعيين واجباتها التربوية والتعليمية على مختلف أصعدتها، ومساهمة أولياء أمور المتعلمين في بعض واجبات العمل التربوي العامّ، من أجل أن يكون لأفراد المجتمع -أولياء أمور الطلبة وغيرهم- دور معلوم وإرادة مقررة في تربية أطفال المجتمع تربية ممتازة، تؤهلهم للعب دورهم كمواطنين كاملي المواطنة حين يرشدون. وإنّ هذا يعني وجوب التركـــيز علـى قـــــــضية (النوعية) في التعليم، وشمولها لمطالب المستقبل؛ لأن قضية (النوعية) هي أكثر القضايا التربوية التي تضع جهودنا على المحكّ، وتضعنا بإزاء عقبة كبرى لا بد من اقتحامها، من خلال الشراكة المأمولة بين الدولة والشعب.
إن الامتياز في التعليم والتعلم، ورصانة البناء العلمي لعقل المتعلم وتدريبه في فنون تكنولوجيا المعلومات والتحليل الموضوعي، وتمرينه في الاعتماد على النفس والاستقلالية في التفكير، والتعاون مع الآخرين في تحليل المشكلات وحلها حلًّا تكامليًّا، وتعويده الانضباط بأخلاقيات التعامل الاجتماعي والالتزام بالوقت واحترامه، وتعظيم قدرته على الإفادة من الإمكانيات الفنية والخدماتية المتاحة، أصبحت جميعها ونظائرها من شروط التربية المستقبلية.
إن موضوع الشراكة المتطلع إليها بين الدولة والمجتمع، وهي التي تثير -أو ينبغي أن تثير- اهتمام الناس بجوهرية هذه الشراكة وجديتها بالنسبة لمستقبل الأطفال والشباب، إذ هي تعزز مسؤولية الناس على تربية أبنائهم وبناتهم، في إطار رؤية وطنية واحدة. وذلك لأن مضمون دور المدرسة وآلياته ومناهجه وبيئته في تغيير مستمرّ، وتطور أكيد، باعتبار أن المدرسة موجودة في الزمان والمكان المعاصرين، فتكون خاضعة لكل المتغيرات المحيطة بها، وتواجه سائر أنواع التحديات، بما في ذلك التحدّي التقنوي والاتصالي والمعلوماتي.
ولدينا -في مملكة البحرين- تجربة ناجحة، نعتزّ بها في الارتقاء بأدوار المدرسة وتفعيلها، على النحو الذي يجعلها مرتبطة بمستجدّات العصر، وتتمثل في مشروع جلالة الملك حمد لمدارس المستقبل، الذي يوفر التعليم الإلكتروني للجميع، الذي يحقق انتقالًا نوعيًّا من التعليم التقليدي إلى التعليم المستقبلي، القائم على توظيف تكنولوجيا المعلومات، ما يتيح لكل طالب أن يتعلم وفق قدراته وإمكاناته، وللمعلم بالتفاعل مع الطلبة ومتابعتهم وتقويمهم، والتواصل معهم حتى خارج الفضاء المدرسي بشكل فعال، وبشكل فردي. كما يتيح لوليّ الأمر التواصل مع المدرسة بشكل مستمرّ، إضافة إلى تحويل الكتاب المدرسي من كتاب ورقيّ، إلى كتاب إلكترونيّ مَرِن، والإنتاج المستمرّ للمحتوى الإلكتروني التعليم، وللإثراءات التي تجعل العملية التعليمة متجددة وغنية ونامية ومتفاعلة، وهذا كله من شأنه المساهمة في تطوير النظام التعليمي نوعيًّا، والارتقاء بمخرجاته، وإعداد الأجيال الجديدة على النحو الذي يجعلهم قادرين على الإسهام في بناء مجتمع المعلومات والاقتصاد القائم على المعرفة.
إلا أنّ النظام التعليمي، ضمن هذه الرؤية التجديدية، يُواجهه تحدّيات مهمة ترتبط بطبيعة عصر المعلوماتية، مثل إدارة ثورة المعلومات، وإعداد رأس المال البشري الكفء، والمدرب والقادر على التجدد وامتلاك المهارات اللازمة، لمواجهة متطلبات الانفتاح على ثورة المعلومات، والإسهام في إنتاج مجتمع المعرفة، بالاستفادة من التكنولوجيات الجديدة المتجددة، وتغيير طبيعة العلاقة بين المدرسة والمجتمع وزيادة التفاعل والارتباط بينهما، وتغير دور المعلم، من دور ناقل المعرفة إلى دور المرشد والمدرّب والمشرف والقائد للعملية التعليمية، وذلك لأن المعلم يظلّ -على الرغم من المتغيرات في مجالات المعرفة وآليات انتقالها- هو العمود الفقري الذي تقوم عليه عمليات التعليم والتعلم، وهو -قبل كلّ شيء- مربٍّ للأجيال ونموذج للاستقامة، يتخذه طلابه قدوة حسنة.
وإذا كان بإمكان الطالب اليوم، أن يصل إلى مصادر المعرفة بسرعة هائلة -ومن دون الحاجة إلى المعلم في كثير من الأحيان- فإنّ الطالب ذاته، يظلّ في أمس الحاجة إلى المعلم المرشد لخرائط المعرفة، والدليل في دروبها الوعرة، يأخذ بيده ويُعينه على كيفية الاستفادة من هذه الأكوام الهائلة من المعارف في شتى العلوم، والتي تتزايد في كمّها ووتيرتها كل يوم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة