علب عطور قديمة، بعضها فارغ وبعضها معتق. ملابس منزلية خفيفة، مشغولة باليد. أوراق صفراء مطوية بعناية وصور.
علب عطور قديمة، بعضها فارغ وبعضها معتق. ملابس منزلية خفيفة، مشغولة باليد. أوراق صفراء مطوية بعناية وصور. أحذية بكعب عال ورفيع، موضة الخمسينيات، داخل أكياس بلاستيكية مازالت تصدر أصواتا كالجديدة. أدوات زينة تشبه نجمات هوليوود. سترات كلاسيكية وتنورات طويلة، كأن لم يمر عليها أيام. هذه الأشياء التى ملأت الخزانة لسنوات وسنوات، وفقا لترتيب أحكمته صاحبتها، رغم بساطتها، جعلت مهمة العبث بها أو لملمتها غاية فى الصعوبة على أفراد العائلة، لأن كلا منها تحمل حكاية أو ضحكة من ضحكات الجدة والأم أو ملمحا من عالمها الذى كان. لحظات القوة والوهن التى رافقت مرحلة ما قبل الرحيل. المكابرة والرغبة فى التصدى للضعف الإنسانى، مع قبول الواقع والاستعداد التام له. يد حانية تربت على كف الحفيدة، لتنام السيدة ذات الشعر الأبيض القصير فى هدوء. هذه المشاهد التى نعرفها جميعا عند فقدان جدة أو شخص عزيز تتبلور تفاصيلها جميعا أمام أعيننا بعد فترة من الغياب، فبعد الموت مباشرة تكون الصورة قريبة جدا وبالتالى مهتزة، ونحن فى خضم الحدث. أما قليل من البعد أو الوقت فيسمح لنا برؤية أفضل، كما هو الحال فى السينما.
***
وهناك من الأشخاص من يعودون لحياتنا تدريجيا بمجرد ذكرهم، لما كان لهم من تأثير ومن حضور.. حضور يشبه روح تلك السيدة التى جسدت دور الأم والجدة فى فيلم المخرج والمؤلف والممثل الإيطالى ــ نانى موريتى ــ الأخير «أمى» أو (Mia Madre)، الذى عرض أخيرا بالقاهرة فى إطار بانوراما الفيلم الأوروبى. حضور يضىء كل ما حوله، حتى فى لحظات النهاية. يظل هناك وهج الجدة التى كانت تدرس اللغة اللاتينية فى مدرسة ثانوية بروما، تماما كوالدة المخرج نفسه الذى اقتبس ملامح كثيرة من حياة أمه ليشاركنا إياها من خلال فيلمه، فهو يروى أجزاء من سيرتها ليستأنف علاقتهما حتى بعد الرحيل. يعيدها إلى الحياة على طريقته، كما يفعل الكثيرون عندما يكتبون أو يتحدثون عمن فقدوهم، ليقترن الحب بالشجن، والحنين والحزن بالضحكات والنكات. هذا هو بالضبط ما فعله موريتى ببراعة، ليخرج جميع المشاهدين تقريبا وقد تذكروا جداتهم وأحيوا ذكراهن أمام شاشة السينما، وهم فى صالة العرض.
***
ابنة السيدة العجوز التى تنتظر الموت فى الفيلم، وهى مخرجة، تكرر دوما على مسامع ممثليها أن عليهم أخذ مسافة من الدور أو الشخصية التى يجسدونها، فتقول: «يجب أن تظل إلى جوار الشخصية»، أى أن يظل الممثل موجودا، نراه ونشعر بحضوره دون أن يذوب كليا فى الشخصية ودون أن يختفى. وهذه هى أيضا إحدى نصائح موريتى لممثليه، التى دون أن ندرى تجعلنا نأخذ بعدا من الشخصيات ومن حياتنا. نفكر فى ما نراه، نصدقه ونفكر فيه وفى أمور أخرى عديدة، كما يفعل المخرج نفسه تجاه حياته، عندما يؤلف أعمالا فنية، بعضها مقتبس من أشياء حدثت له بالفعل. يذهب ويجىء، متنقلا بين ذاته والآخرين، ونرتحل نحن معه ذهابا وإيابا، فنرى شخصيات كتاب حياتنا وبعضها يأفل أو يتوه.
نقف على مسافة من ماضينا فنعيد اكتشاف حلاوة روح الجدات ودورهم كوسيط بين جيلى الآباء والأحفاد، وسيط لديه خبرة السنين ورصيد من الحب لدى جميع الأطراف، وسيط يحمى ميراث الأسرة الشفهى ويساعد على تجاوز الأزمات، وسيط يتطور دوره وشكل أدائه مع العصر، ليأخذنا إلى عالم الجدات المسحور بالحكاية والفطنة والحنان. وبدلا من أن نرى والدة نانى موريتى فقط نرى جداتنا وأمهاتنا. وكما أراد هو أن يطعم فيلمه بأشيائها الخاصة من كتب وكنزات صوفية وأجندة وجراب النظارة، نسترجع نحن منظر متعلقات جداتنا وهى مرصوصة فى الخزانة الخشبية، كما فى بداية هذا الموضوع.. أتذكر جدتى فترتسم على وجهى ابتسامة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة