اللقاء الذى تفضل السيد رئيس الجمهورية فدعانى له مع عدد من الكتاب والصحفيين الزملاء لنتبادل الرأى حول ما تواجهه بلادنا
فى مقالة الأربعاء الماضى وعدت القراء الأعزاء بأن أقدم لهم فى مقالة اليوم ما قلته فى اللقاء الذى تفضل السيد رئيس الجمهورية فدعانى له مع عدد من الكتاب والصحفيين الزملاء لنتبادل الرأى حول ما تواجهه بلادنا من تحديات وأخطار وشرور تفاقمت واشتدت وأصبحنا معها فى حاجة لنفير عام يجند المصريين جميعا ويعبىء طاقاتهم لمواجهتها والوصول بمصر الى بر الأمان.
وهناك من يفهم من التجنيد والتعبئة عكس المعنى الذى أقصده فيعتبر الأزمة التى نمر بها فرصة سانحة يروج فيها لحكم الفرد، ويعتبر الحرية خطرا يهدد الأمن ويعطل الخروج مما نحن فيه. وهو فهم فاسد مضلل، لأننا لم نصل الى ما نحن فيه الا لأن حرياتنا كانت طوال العقود الماضية مهدرة مصادرة، فلم نكن نسمع، ولم نكن ننطق، ولم نكن نرى. وفى مناخ كهذا المناخ لا يتمتع بحرية القول والفعل الا اللصوص وقطاع الطرق الذين يجدون كل شىء متاحا وكل فعل مباحا، فالمال سائب، والشعب هارب، والسلطة انفراد واحتكار، والطغيان نظام راسخ وتراث عريق.
لا. وإنما نحتاج لأن نعرف ونفكر، ونسأل ونجيب، ونراقب ونحاسب، ونستنهض قوانا وملكاتنا، ونستعيد ثقتنا نحن المصريين بأنفسنا، ونستأنف السير فى طريق النهضة حتى نصل الى بر الأمان، وبر الأمان هو حاضر البشرية الذى لم نبلغه حتى الآن. وأفدح من هذا وأدعى للأسف والألم أننا تخلينا عن حاضرنا الذى بنيناه فى القرنين الماضيين وقطعنا به مرحلة فى الطريق إلى حاضر البشرية المتقدمة وعدنا القهقرى الى ماضى موتانا تحت أعلام السلفيين السوداء!
ولأن الرئيس يعلم علم اليقين أن مانواجهه اليوم لم يكن مفاجأة باغتتنا اليوم فقط، وإنما هو تركة ثقيلة باهظة من المشاكل والتحديات ومن الهزائم والجرائم التى ارتكبت فى حقنا طوال العقود الماضية فقد بدأ الرئيس سلسلة لقاءاته الأخيرة بالمثقفين يطرح عليهم سؤاله الجامع الذى أفردت مقالة الأسبوع الفائت لتفسيره وتوضيحه ولما يتطرق إليه من موضوعات ويتفرع عنه من أسئلة: نحن فى عصر انحطاط؟ أم نحن فى عصر ازدهار؟
وقد أحسن الرئيس صنعا حين اختار هذا السؤال ليطرحه على المصريين فى هذه المرحلة الفاصلة وحين بدأ بالمثقفين الذين يفترض أن يكونوا بحكم اشتغالهم بالتفكير مهتمين أكثر من غيرهم بأسئلة من هذا النوع تسمح بالنظر فى الواقع لا من حيث هو مشاكل متفرقة وجوانب مختلفة، بل من كافة الجوانب:
السياسة، والثقافة، والدين، والقانون، والفكر، والعمل، والماضى، والحاضر وإذن فالحوار الذى بدأه الرئيس مع بعض المثقفين مفتوح لكل المثقفين الذين يحق لهم ويجب عليهم أن يشاركوا فيه كل بما يتيسر له من الوسائل والمنابر. ولهذا رأيت أن أواصل الحديث عما دار فى هذا اللقاء وأن أسجل ما قلته فيه، ليس دائما بالصورة التى يفرضها الارتجال والوقت المحدود، وإنما بالصورة التى تقتضيها مخاطبة القارىء وتتيحها الكتابة وتسمح لى فيها وأنا أجيب على هذا السؤال الجامع بأن أتوقف عن سرد ما قلته فى اللقاء لأشرح فى المقالة ما أراه محتاجا للشرح أو لأمهد له ببعض المعلومات التى تضعه فى مكانه ثم أعود للسرد من جديد. وأنا ملتزم بأن أقدم للقارئ فى هذه المقالة وفيما يليها تسجيلا أمينا لجوابى على سؤال الرئيس إيمانا بمسئولية المثقف أمام الناس عن كل كلمة يقولها، خاصة فى هذه الظروف التى تفرض علينا جميعا أن نكون على أعلى درجة من الشعور بالمسئولية.
نحن إلى الآن لم نراجع هذا التاريخ الذى ثرنا عليه فى يناير ويونيو. لم نحدد طبيعة النظام الذى أقامه ضباط يوليو وما جره علينا من مصائب طوال العقود الستة التى خيم فيها على البلاد.
ولم نحدد موقفنا المبدئى من النظام الذى أقامه الاخوان الارهابيون.
أسقطنا حكومتهم وتركنا ثقافتهم التى لاتزال تجد من يتبناها ويمثلها فى المؤسسات والأحزاب الدينية، ولاتزال تفعل فعلها المدمر فى حياتنا كلها. ثم إننا لم نلتفت حتى الأن للعلاقة العضوية التى تربط بين النظام العسكرى والفاشية الدينية. إنهما أخوان شقيقان ـ يتصارعان على السلطة ـ ويتحالفان ضدنا!
ولأننا لم نراجع هذا التاريخ فنحن لم نستفد منه ولم نحوله إلى خبرة نجتاز بها ما نواجهه الآن من عقبات كأداء ونندفع فى طريق المستقبل. وإذن فالثورتان اللتان قمنا بهما لاتزالان حتى الآن تنتميان لردود الفعل ولم تتحولا إلى فعل بعد. والفرق بينهما جوهرى.
رد الفعل استجابة غريزية لما يقوم به الطرف الآخر الفاعل. أما الفعل فهو استجابة حرة متعقلة لما نريده نحن ونختاره ونحدد به غايتنا ونرسم طريقنا. والمعنى المقصود هنا هو أن الشعارات التى رفعناها فى الثورتين والنتائج التى انتظرناها منهما لاتزال مؤجلة، ولم تفتح لنا تاريخا جديدا نخرج فيه من الانحدار إلى الازدهار.
وإنما هو الماضى الذى لا نزال نتخبط فى ظلماته لأننا لانزال نتجاهله ونكتم شهادتنا عليه ونسكت فوق ذلك على شهود الزور الذين يقومون بتزويره. وهو داء قديم متوطن لم نبرأ منه حتى الآن.
نعم. تاريخنا القديم، والوسيط، والحديث كله مزور بدوافع مختلفة، دينية أحيانا، وسياسية أحيانا أخرى.
فالفراعنة كلهم فى هذا التاريخ المقرر علينا طغاة متألهون. وهذه أكذوبة تحولت إلى عقيدة راسخة، تماما كما تحول الانقلاب العسكرى فى تاريخنا المعاصر إلى ثورة زورت كل ما حدث قبلها وما حدث بعدها. والنتيجة هذه التركة الثقيلة من الخسائر والهزائم والأزمات التى لم نفتح أضابيرها ولم ننفض عنها تراب النسيان أو التناسى حتى الآن.
لأن السلطة فى نظامنا الجمهورى كانت ميراثا! وهذه مفارقة أخرى. ميراثا لا يصل إلا للأيدى التى تتستر على ما ارتكبه الذين سبقوها لتتمكن من إضافة ما ترتكبه الى ما ارتكبوه. وهكذا ثقلت التركة ولم يعد فى وسع أحد أن يحملها أو يتستر عليها، وصار علينا أن نتصدى لها جميعا كما فعلنا فى الثورتين اللتين اختزلناهما فى محاكمات عقدناها لأشخاص ممن تولوا السلطة فى العقود الماضية ولم نعقدها حتى الأن كما أشرت فى السطور التى سبقت للنظم والسياسات والوقائع والشعارات التى جاءت بهؤلاء الأشخاص إلى السلطة وسمحت لهم بأن يرتكبوا ما ارتكبوه.
وفى لقائنا مع السيد الرئيس تحدث عن هؤلاء الذين نزلوا بمصر الى هذا الدرك الأسفل.
والرئيس إذن يجيب على السؤال الذى طرحه: انحطاط أم ازدهار؟ لكن جواب الرئيس يستدعى سؤالا آخر هو: ومن الذى أتى بهؤلاء الذين صنعوا بمصر ما صنعوه؟
والجواب بكل بساطة هو الانقلاب الذى تحول الى ثورة. وهذا هو التاريخ الذى يجب علينا أن نراجعه ونراه على حقيقته ونخرج منه الى تاريخ جديد.
نظام ديمقراطى بحق، وفكر دينى جديد يستجيب لحاجات العصر ومبادئه ومواثيقه. فاذا كانت المراجعة ستعرضنا للمصير الذى لقيه اسلام بحيرى، وأحمد ناجى، وفاطمة ناعوت فسوف تظل هذه المراجعة كما كانت حتى الآن مؤجلة إلى أجل غير مسمى. وإذن فنحن لم نثر حتى الآن، لا فى يناير، ولا فى يونيو!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة