حسين نصار.. آخر تلاميذ العميد طه حسين
حسين نصار من الجيل الثالث أو الرابع الذي تتلمذ على يد طه حسين وتخصص في الدراسات الأدبية واللغوية معًا.
في الوقت الذي كانت وزارة الثقافة المصرية ممثلة في دار الكتب والوثائق القومية، تستعد لتكريم آخر تلاميذ العميد طه حسين، الدكتور حسين نصار (من مواليد العام 1925) أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، وعميد محققي التراث العربي، وشيخهم الأكبر الآن، والموسوعي البارز، الذي ألف وحقق وترجم ما يربو على المائة كتاب، وذلك بمناسبة بلوغه التسعين عامًا، قامت مؤسسة أخرى تابعة لوزارة الثقافة، وهي المركز القومي للترجمة، بسحب جميع نسخ ثلاثية المؤرخ الأيرلندي الشهير هنري جورج فارمر عن الموسيقى العربية، والتي ترجمها حسين نصار منتصف القرن الماضي، والسبب اعتراض أحد شيوخ الأزهر على بعض محتواها ورأى فيها ما يستوجب الاعتراض المنع!
الغريب أن هذا الأمر تزامن مع الاحتفال بالعيد التسعيني لمترجم الكتاب، بالإضافة إلى أن هذه الثلاثية "مصادر الموسيقى العربية"، "تاريخ الموسيقى العربية"، و"الموسيقى والغناء في ألف ليلة وليلة"، تقريبًا هي أوفى مرجع عن تاريخ الموسيقى العربية القديمة، وهي ليست جديدة، بل إنها ترجمت ونشرت قبل أكثر من 65 عامًا في وقت لم يثر الكتاب اهتمام أحد لا من شيوخ الأزهر ولا غيرهم!
في العموم، لم يمنع هذا التناقض الغريب والمثير للدهشة في آن، أن تقوم جامعة القاهرة بدورها بالاحتفال بتسعينية أحد شيوخها الأفذاذ، وأعلامها الكبار، ونظمت احتفالية حضرها رئيس الجامعة وعميد الكلية والأساتذة والمعيدين والطلاب، وألقى فيها حسين نصار كلمة مؤثرة حملت خلاصة تجارب السنين وحصاد جهد وإخلاص وتفان في العلم والإنتاج والمساهمة الجادة الرصينة لما يقرب من القرن.
حسين نصار من الجيل الثالث أو الرابع الذي تتلمذ على يد طه حسين وتخصص في الدراسات الأدبية واللغوية معًا، وكان شأنه شأن أبناء جيله من الموهوبين قد التحق بالسلك الجامعي عقب تخرجه سنة 1947، ومن حينها بدأت رحلة طويلة من الإنتاج الوافر والإنجازات الضخمة والمساهمات العلمية والفكرية والثقافية التي بلا شك خلدت وستظل تخلد اسمه في مدونة المثقفين العرب الكبار، خاصة مع تعدد الوجوه والمناحي التي ساهم فيها نصار، والتي بلغت أكثر من مائة مؤلف وكتاب محقق ومترجم، عدا عشرات وربما مئات المقالات والبحوث المنشورة في الصحف والدوريات المختلفة ولما يتم جمعها بعد، حتى الآن.
أول ما عرّف الأوساط الأدبية والثقافية، في مصر والعالم العربي، باسم حسين نصار عملاه الكبيران المرجعيان «نشأة الكتابة الفنية في الأدب العربي"، و"المعجم العربي نشأته وتطوره"؛ الأول كان رسالته للماجستير التي حصل عليها عام 1949، أي بعد سنتين فقط من تخرجه، والثاني الدكتوراه التي نالها سنة 1953، وكلاهما ومنذ كتبهما نصار يعدان كتابين مرجعيين أساسيين لا غنى عنهما في مجاليهما حتى اللحظة، خصوصًا "المعجم العربي" الذي يعد أوفى وأشمل دراسة كتبت حتى الآن عن المعجم العربي وتاريخه، استقصت المدارس التأليفية والمناهج التصنيفية التي احتوى عليها هذا العلم العريق، ولم يزد عليها أحد من بعده، مدرسة واحدة أو اتجاها آخر في التأليف المعجمي لدى العرب حتى اليوم.
اللافت أن الرجل ومنذ بواكيره كان حريصًا على الجمع بين أشتات متفرقات، الأدب واللغة، القديم والحديث، التراث والمعاصرة، العربية والإنجليزية، السيرة والتراجم.. كما تظهر موسوعيته بوضوح في مؤلفاته ذات الموضوعات المختلفة؛ حيث ألّف في إعجاز القرآن، والأدب، واللغة، والتاريخ، وترجم في كل ذلك أيضًا، وفي تحقيق التراث ترك ما لا يقل عن 25 كتابًا محققًا راوحت بين الرسائل الصغيرة والدواوين المفردة والأعمال الضخمة التي تتكون من عشرات المجلدات، وهو في هذا كله لا يفارق تقاليد العظماء الذين تخرجوا في الجامعة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى رأسهم أستاذه طه حسين.
وفي الوقت الذي كان حسين نصار يعكف على تأليفاته وتحقيقاته في الأدب واللغة، وكان مولعًا بتتبع نشأة الظواهر الفنية في تاريخ الأدب العربي وتتبع نموها وتطورها، من مصادرها الأصيلة ومخطوطاتها الأصلية، خلا كرسي أدب مصر الإسلامية من أستاذ يشرف عليه بعد وفاة صاحبه، وأُسند إلى حسين نصار الإشراف على هذا التخصص ومتابعة دروسه ومحاضراته للطلبة، وبعد كل من أحمد أمين، أمين الخولي، محمد كامل حسين، صار حسين نصار رابع أستاذ يتولى الإشراف على هذا التخصص الدقيق من فروع الدراسة الأدبية، ومن حينها اقترن اسم حسين نصار بالأدب المصري في العصور الإسلامية، وصار العلم الأشهر في هذا التخصص حتى وقتنا هذا.
بالتأكيد من يحاول حصر أعمال حسين نصار وتصنيفها والتعريف بها، سيصاب بغير قليل من الدوار، وسيدهش من غزارة الإنتاج وقيمته وأهميته، وجمعه بين مجالات وتخصصات عدة ومتباينة، فمن إعجاز القرآن الذي عكف على تأليف أكثر من 16 مجلدًا في موضوعاته ومسائله وقضاياه إلى التاريخ الإسلامي وموضوعاته، وله في ذلك كتاب مؤلف هو "نشأة التدوين التاريخي عند العرب"، وكتيب صغير لكنه شديد الأهمية والقيمة اسمه "الثورات الشعبية في مصر الإسلامية" أرخ فيه للثورات المصرية في القرون الثلاثة الأولى التي تلت الفتح الإسلامي لمصر، وتنتهي بدخول الفاطميين وإقامة الخلافة الشيعية، وقسمها لثورات "حمراء" سفكت فيها الدماء، وثورات "بيضاء" قولية عن طريق الشعر، بالإضافة إلى كتابين مترجمين لا يستغنى عنهما مهتم بالتاريخ ولا متخصص حتى اللحظة وهما "دراسات عن المؤرخين العرب" لمرجليوث، و"المغازي الأولى ومؤلفوها" لهورفنتس.
قراء الشعر العربي القديم ومحبوه، خاصة أعلامه الكبار، المتنبي وأبو تمام وأبو العلاء المعري، ورابعهم ابن الرومي، يعلمون جيدًا أن الذي حقق "ديوان ابن الرومي" في ستة مجلدات، وهو أضخم دواوين العربية وأكبرها على الإطلاق، قام بتحقيقها حسين نصار، ولم يكتف بتحقيق الديوان فقط، بل ترجم كتابًا ضخمًا عن حياته وشعره للمستشرق روفون جست "ابن الرومي حياته وشعره"، وهو تقريبًا أشمل دراسة للشاعر وشعره في تاريخ الأدب العربي، وترك أيضًا كتابًا مؤلفًا عنه!
وفضلًا عن ديوان ابن الرومي الذي قام بتحقيقه، أخرج حسين نصار حوالي 10 دواوين أخرى من عيون الشعر العربي لشعراء متفرقين، زمانيًّا ومكانيًّا، لعل أشهرهم مجنون ليلى (قيس بني عامر)، قيس بن ذريح، جميل بثينة، ظافر الحداد، ابن وكيع التنيسي، ابن مطروح، سراقة البارقي، وآخرين.
ولمعايشته الدائمة وانغماسه الكامل في الشعر العربي لا يفارقه ولا يبعد عنه، وبعد أن أخرج عشرات من نصوصه، كتب حسين نصار أول دراسة شاملة عن "القافية في العروض والأدب"، أيضًا شأنها شأن كل ما كتب، ما زالت هذه الدراسة مرجعية في بابها لا يستغنى عنها قارئ مهتم أو دارس للشعر العربي القديم وموسيقاه، وتناول في هذا الكتاب مفهوم "القافية" المختلف عند العروضيين، وتقنينهم لحركاتها، وحروفها، وعيوبها، كما تناول أشكال القافية في القصيدة العربية على مر العصور: سواء التي اتبعت نظام عروض الخليل بن أحمد، أم التي تمردت عليه مثل: المزدوجات، والمربعات، والمسمطات، والموشحات، والدوبيت، والشعر المرسل، والشعر الحر. وترك أيضًا كتبه "في الشعر العربي"، و"في الأدب المصري"، و"الشعر الشعبي العربي".
إلى هنا وقد يظن ظان أن هذا الإنجاز في دراسة الشعر العربي، تأليفًا وتحقيقًا، والذي يفوق التصور لا يسمح لصاحبه بأن يتفرغ لشيء آخر.. لكن حسين نصار وبمثل الحماسة والإخلاص اللتين أولاهما لدراسة الشعر العربي، قدّم دراسات مهمة وقيمة في فنون النثر أيضًا، وأنواعه القديمة، فقدم مثلًا تحقيقه لنص "رحلة ابن جبير"، واحدة من أهم نصوص أدب الرحلة في تراثنا القديم، وكتب دراسته المهمة "أدب الرحلة" وهي من الكتب الممتازة التي تقدم معرفة شاملة وكلية بهذا الفن العريق في التراث العربي، تناول فيه أدب الرحلة عند العرب قديمًا وحديثًا، من حيث دواعيها عند العرب، وأشكالها في الشعر والنثر، وكونها نوعًا أدبيًّا، وبنائها الفني.
أيضا ترك مؤلفه الصغير الممتع "في النثر العربي" جنبًا إلى جنب الكتاب الذي ضم مختاراته من أحد كتب التراث الأدبي الشهيرة، وهو كتاب الكامل في التاريخ والأدب للمبرد.
طاقة حسين نصار على الجمع بين التأليف والتحقيق والترجمة جنبًا إلى جنب التدريس الجامعي والإشراف على الرسائل العلمية والمساهمة في الندوات والمؤتمرات وغيرها، تثير أسئلة ملحة حول هذه القدرة البشرية والإرادة الصلبة التي تجعل صاحبها ينجز كل هذا الحجم من المؤلفات والأعمال، إنه أمر مذهل بكل المقاييس!
aXA6IDMuMTQ1LjYzLjE0OCA= جزيرة ام اند امز