تضرب العلاقات المصرية - الخليجية عموماً، والسعودية على وجه الخصوص، جذوراً عميقة فى التاريخ العربى المعاصر
تضرب العلاقات المصرية - الخليجية عموماً، والسعودية على وجه الخصوص، جذوراً عميقة فى التاريخ العربى المعاصر، غُرست فى طبقاته القديمة التى تمتد إلى قرون غابرة، لتنتج مع مرور الزمن شبكة من المصالح الاقتصادية والتجارية، والأهداف السياسية والاستراتيجية، والروابط الاجتماعية، والتلاقح الثقافى.
وفى العقود التى خلت، وتحديداً منذ قيام ثورة يوليو فى مصر عام 1952، لم تأخذ العلاقات بين الجانبين شكلاً خطياً، ولم تتوزع بنفس القدر والصيغة على دول الخليج العربية كافة، قبل قيام مجلس التعاون الخليجى فى عام 1981 وبعده. بل إن هذه العلاقات تنوعت واختلفت فى الدرجة والنوع، ودخلت منعرجات عدة، حسب مقتضيات المصالح المتبادلة، والدور المصرى الإقليمى التقليدى، ثم التنافس الإقليمى بين مصر والمملكة العربية السعودية منذ أواخر الخمسينات. وجاءت التغيرات التى شهدها النظام الدولى، بانقضاء الحرب الباردة ومعها القطبية الثنائية، لتضع بصمات قوية على العلاقات المصرية - الخليجية، خصوصاً أن القوة العالمية الكبرى حالياً، وهى الولايات المتحدة الأمريكية، لها مصالح كبيرة، ومن ثم حضور كبير فى منطقة الخليج العربى.
وتتبع التاريخ الحديث للعلاقات المصرية - الخليجية يبدأ مما جرى مطلع القرن التاسع، إذ ضم محمد على الحجاز إلى مصر، ليتركز أغلبها فيما بعد فى العلاقات الثقافية وتأثير النخبة الفكرية المصرية فى شعوب الخليج، لتصعد إلى علاقات سياسية مع قيام جامعة الدول العربية فى عام 1945، ثم قيام ثورة يوليو فى مصر، ومدها روابط سياسية وأيديولوجية مع منطقة الخليج. وبعد ذلك، كان استقلال دول الخليج العربية عن الاحتلال البريطانى، وقيامها ببناء علاقات ثنائية مع مصر، والتقاء الطرفين بقوة تحت مظلة الجامعة العربية، ثم قيام مجلس التعاون الخليجى وظهور شكل آخر من العلاقات بين الجانبين، والتى تطورت إلى الوقت الراهن، متأثرة بتغير السياقات الإقليمية والدولية، وبخاصة فى ظل التداعيات المريرة التى ترتبت على حرب الخليج الثانية التى اندلعت فى يناير 1991، ضد العراق تحت اسم «عاصفة الصحراء».
وهذه الرحلة التاريخية راكمت حلقات متشابكة من الروابط والمصالح بين مصر ودول الخليج العربية، وهو ما يحتم ضرورة تناول مختلِف مجالات التعاون بين الطرفين (سياسي/ اقتصادى/ عسكرى وأمنى/ اجتماعى وثقافى) وما فى هذه الجوانب الكلية من تفاصيل، وبخاصة فى الاقتصاد، الذى يشمل قضية العمالة والاستثمار والتجارة البينية والمساعدات. ومن ثم يتم الانطلاق من هذه المعطيات كافة إلى التنبؤ بالأفق المستقبلية لهذه العلاقات، عبر بناء مؤشرات تتكئ على جذور الماضى ومعطيات الحاضر، فى سياق ما هو متوقع فى الأفق المنظور من مستجدات إقليمية ودولية، ومن تحديات تواجه العالم العربى برمته.
وعلى هذا الأساس، يمكن تقسيم علاقة الطرفين إلى حقب زمنية، تحدد الفواصل بينها نقلات تاريخية فارقة شهدتها مصر ودول الخليج العربى، فرادى أو مجتمعة، كل حقبة منها سيطر عليها تصور سياسى محدد، أو أن السلوك الخارجى المتبادل بين الطرفين أخذ شكلاً معيناً، يمثل عنواناً عريضاً لتلك الحقبة.
والحقبة الأولى كانت مصر هى المركز القوى والخليج هو «المجال الحيوى»، وتبدأ من الإرهاصات الأولى للعلاقات المصرية - الخليجية فى الفترة التى سبقت قيام الدولة السعودية، حين كانت مصر دولة مركزية كبيرة فى المنطقة، فيما كانت منطقة الخليج العربى تعيش مرحلة ما قبل الدولة. وتعود هذه المرحلة إلى حكم الطولونيين فى مصر، والذين كانت لديهم نزعة استقلالية عن الخلافة العباسية، لتمتد إلى فترة حكم محمد على الذى ضم الحجاز إلى مصر، ومنها إلى قيام الدولة السعودية فى عام 1932.
والحقبة الثانية يمكن أن يكون عنوانها «من التبعية إلى أبواب الحرب العربية الباردة: حيث الأحداث والوقائع التى جرت خلال المرحلة التى سبقت إتمام استقلال دول الخليج العربية، وتمتد من عام 1932 حتى عام 1970 الذى شهد رحيل الرئيس المصرى جمال عبدالناصر، لتُطوى صفحة مفعمة بالتأثير المصرى فى الحركات السياسية والاجتماعية الخليجية وكفاحها ضد الاستعمار، على التوازى مع الشد والجذب بين القاهرة والرياض التى لم يَرُق لها المد الثورى المصرى فى تلك الآونة.
والحقبة الثالثة يمكن أن يكون عنوانها العريض هو «من الوفاق إلى القطيعة» وهى تغطى الفترة الممتدة من عام 1971 حتى عام 1990، والتى شهدت تحولات فارقة فى العلاقات بين مصر ودول الخليج، مع سيطرة الرئيس أنور السادات على دفة الحكم فى مصر، وقيام دول خليجية أربع هى: الإمارات وقطر والبحرين وسلطنة عُمان، ثم حرب أكتوبر 1973 ووصول التنسيق المصرى - الخليجى إلى ذروته، ليبدأ بالتناقص مع اتجاه السادات إلى «الحل السلمى» المنفرد مع إسرائيل، وينتهى بقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر. وخلال هذه الفترة، قام مجلس التعاون لدول الخليج العربية فى عام 1981، واندلعت قبل ذلك بعام الحرب العراقية - الإيرانية، ووصل الرئيس حسنى مبارك إلى سدة الحكم فى مصر، بادئاً توجهاً جديداً فى علاقات مصر العربية، وهو ما انعكس على علاقاتها مع دول الخليج.
والحقبة الرابعة هى «زمن الاعتماد المتبادل»: وتمتد من الغزو العراقى للكويت إلى الوقت الراهن، مروراً بحربى الخليج الثانية والثالثة، وانتهاءً باحتلال العراق. أما الخامسة فرتبط برهان الحفاظ على الكتلة العربية الحية، وهى مسألة شرحتها باستفاضة فى مقال الأمس، وهنا يمكن أن نستشرف مستقبل العلاقات المصرية - الخليجية بناءً على افتراض مفاده أن بوسع الطرفين، حال تمكين شعوبهما من دفة القرار، أن يوقفا أو يجهضا المشروعات الإقليمية الرامية إلى الإجهاز على «النظام الإقليمى العربى»، ولعل زيارة العاهل السعودى الحالية لمصر، تصب فى هذا الطريق.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الوطن وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة