عندما يزيّن الجرافيتي جدرانا "تحتضن" القمامة في القاهرة
اختلطت مشاهد القمامة بجرافيتي ضخم غطى أجزاء من جدران نحو 50 منزلا بمنطقة الزرايب التي يعيش أغلب قاطنيها على جمع القمامة
حين كان ينظر زوار دير القديس سمعان المقام في قلب جبل المقطم بشرق القاهرة إلى المنطقة السكنية أسفله لم يكونوا يرون سوى أكوام وأجولة القمامة التي تملأ كل الشوارع تقريبا وتتدلى أيضا من شرفات وأسطح المنازل غير المطلية المبنية من الطوب الأحمر..
لكن الوضع تبدل الشهر الماضي.
فلقد اختلطت مشاهد القمامة بجرافيتي ضخم غطى أجزاء من جدران نحو 50 منزلا بمنطقة الزرايب التي يعيش أغلب قاطنيها على جمع القمامة من مختلف مناطق القاهرة ثم فرزها وبيعها مرة أخرى لمصانع إعادة تدوير المخلفات.
وجاء الجرافيتي المتدرج الذي صممه فنان تونسي واعتمد على الخط العربي متسقا مع واقع المنطقة التي تقطنها أغلبية مسيحية فقد استخدم قولا مأثورا للقديس أثناسيوس بابا الإسكندرية الذي عاش خلال القرن الثالث الميلادي.
وتضمن الرسم الذي جاء على شكل دائرة كبيرة كلمات رسمت بطريقة فنية لعبارة تقول "إن أراد أحد أن يبصر نور الشمس فإن عليه أن يمسح عينيه."
وعلم الفنان التونسي السِيد الذي صمم الرسم وأشرف على تنفيذه بمنطقة الزرايب عن طريق أحد العاملين معه وحصل على معلومات أكثر عنها من خلال الإنترنت لكن ما وجده على الأرض كان مفاجئا له.
وقال لرويترز في مقابلة أجريت عبر سكايب "ذهبت للمكان لأول مرة في الصيف وعندما وصلت له أحسست نفسي غلطان. كنت أعتقد أنهم فقراء ويعيشون في الزبالة. هم لا يعيشون في الزبالة.. هم يعيشون من الزبالة."
وأضاف "قلت كيف يمكن الذهاب لهذا المكان وإضفاء جمال عليه برسم فني؟"
وأطلق السِيد على مشروعه اسم "إدراك" وقال إنه أراد أن يختبر به مدى الفهم الخاطئ والأحكام التي قد يصدرها مجتمع على مجتمع آخر بناء على الاختلافات فيما بينهما.
وقال السِيد "فكرة المشروع كله أنه كيف أنت تأخذ فكرة عن مجموعة من الشعب أو عن شخص بدون ما تعرفه."
ولاقت الفكرة استحسان أهل المنطقة.
وقال سعيد راتب بخيت "الصورة دي (الرسم) بتساهم في أنها تمسح الغشاوة اللي على عين الناس. في ناس بتقول على منطقتنا دي الزبالين.. إحنا منظفين."
وقال عوض شهيد فانوس بينما كان يقوم بفصل القمامة هو وإحدى الفتيات خارج منزله عن الرسم "دي صورة ربنا حلوة مش وحشة" وذلك في إشارة إلى أن الرسم يحتوي على قول مأثور لرمز ديني مسيحي.
وأضاف أنه وافق على السماح لفريق السِيد باستخدام أحد جدران منزله "عشان الدير فوق والناس اللي بتيجي من بره...السياح بيطلعوا فوق ويبصوا.
"الواحد لما يبص يلاقي منظر حلو زي كده بدل ما يبص يلاقي بيت كله تراب وحاجات من دي."
ولا يجد أهل المنطقة غضاضة في عملهم في جمع وفرز القمامة ويعتبرونها مصدر فخر لهم.
وقالت فريدة "ما عيب إلا العيب.. مش بدل ما نشحت."
وقال منير نعيم "ربنا قال بعرق جبينك تأكل خبزك.. يعني تاكل بعرقك.. اشتغل في المجاري وكل بعرقك."
والسِيد هو اسم شهرة فني وليس الاسم الحقيقي للفنان التونسي المولود في فرنسا والبالغ من العمر 34 عاما. ويشترط الفنان عدم نشر اسمه الحقيقي.
واستغرق تنفيذ الرسم ثلاثة أسابيع لكن الإعداد له استغرق عاما كاملا وزار السِيد القاهرة أكثر من مرة قبل بدء التنفيذ. وشارك في التنفيذ فريق كبير يضم تونسيين وجزائريين وفرنسيين جاءوا جميعا من فرنسا وانضم لهم عمال مصريون.
وقال السِيد إنه لم يتعرض لمضايقات من السلطات خلال فترة عمله لكنه واجه بعض الصعوبات خاصة مع الجمارك بسبب المواد والدهانات التي أحضرها من فرنسا.
كما سهلت موافقة الأب سمعان إبراهيم راعي دير القديس سمعان على تنفيذ مشروعه الفني من مهمته بمنطقة الزرايب.
ومول السِيد المشروع من ماله الخاص.
وقال ردا على سؤال حول العائد الذي قد ينتظره من هذا العمل "الفائدة ليست في الفلوس. الفائدة في الهدف منه وكيف أحس به الناس هناك.
"مثل هذا العمل وسط كل الأخبار السيئة يعطي رسالة أمل."
وحين انتهى السِيد من مشروعه الفني الذي استوحاه من رسوم جرافيتي على الجبال في بيرو لم يكن يتخيل أن يلقى هذه الحفاوة وهذا التقدير.
وقال "أنا فوجئت مفاجأة كبيرة.. كل يوم في رسائل (إعجاب) تصلني."
ورغم مولده في باريس لم ينس السِيد يوما جذوره.
وقال "كبرت في فرنسا (لكن) علاقتي مع تونس كانت قوية ولما وصلت لسن 18 أو 19 لم أحس نفسي فرنسيا وقلت لازم أرجع للأصل الحقيقي.. الأصل التونسي.. الأصل العربي وبدأت أتعلم القراءة والكتابة باللغة العربية."
وبدأت علاقته بالجرافيتي كهاو في شوارع فرنسا في التسعينيات لكن الأمر أخذ منحى آخر بعد بضع سنوات.
وقال السِيد "في 2004 بدأت أخطط (رسم الخطوط) وأشوف الخط التقليدي وأعرضه بنفس الشيء وما كان عندي حتى فكرة عن الخط العربي أو قوانينه الفنية... بدأت ألعب بالحروف ودخلته في الجرافيتي الخاص بي ووصلت الحمد لله."
وصمم السِيد ونفذ العديد من رسوم الخط العربي أو ما يطلق عليه (الكاليجرافيتي) في مناطق مختلفة من العالم. ومن أبرز مشاريعه رسم بالخط العربي على أحد جوانب جسر الفنون أو ما كان يعرف باسم جسر العشاق في العاصمة باريس.
والعام الماضي أصبح السِيد زميلا لمؤسسة تيد المعنية بنشر الأفكار الجديدة والمبتكرة بوصفه "سفيرا للثقافة العربية باستخدام فن الخطوط".
ونفذ الكثير من الرسوم في بلده الأم تونس ومن أشهرها رسم استخدم فيه آية قرآنية على مئذنة مسجد في مدينة قابس الجنوبية مسقط رأس أسرته لكنه يرى أن تجربته في مصر كانت مختلفة فنيا وإنسانيا.
وقال السِيد "خرجت من مصر وقلت هذا أكبر مشروع أنا صنعته... الرسم كان تحدي تشكيلي. التجربة اللي صارت في مصر أقوى تجربة إنسانية صارت في حياتي."
ويقول السِيد إن ما لاقاه وفريقه من حسن استقبال وكرم ضيافة في منطقة الزرايب لم يشهده في أي مكان آخر.
وقال "كانوا يعزمون علينا بالطعام والشراب ويدعوننا لمنازلهم.. وفي الأخير صرنا عائلة واحدة."
وفي منطقة الزرايب قالت ماما فريدة التي كانت تجلس مع جيرانها خارج منزلها عن السِيد وفريقه "حبناهم زي عيالنا." وقالت جارتها أم عاطف "لما جم يمشوا احنا عيطنا (بكينا) عليهم وهما عيطوا علينا."
وازدهر فن الجرافيتي في مصر إبان الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك عام 2011 وغطت الرسوم الشوارع التي تحيط بميدان التحرير مهد الانتفاضة في وسط القاهرة.
وكانت تجسد هذه الرسوم أهم مشاهد الانتفاضة وما تلاها من احتجاجات واضطرابات سياسية لكن السلطات طمست أغلب هذه الرسوم في إطار حملة على المعارضة.
ورغم ذلك يرى السِيد أن مصر هي "أقوى بلاد العرب" في فن الجرافيتي.
وقال "لما تشوف فنانين الجرافيتي في مصر فالمدى عندك واسع. في ناس تعمل الخط وفي ناس يعملوا بورتريه. حتى الأفكار أعجبتني."
وأضاف "أحببت من هذا المشروع أن أعرف الشباب في مصر وفي العالم كله فكرة أنك لما توصل رسالة أمل ورسالة سلام.. مستحيل ألا ينجح المشروع.
aXA6IDMuMTIuMTQ4LjE4MCA=
جزيرة ام اند امز